للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأمَّا حمله على المجاز فمعناه: لا تقتلوا أنفسكم بارتكابكم ما يوجب ذلك، كالارتداد والزنى بعد الإحصان، والمحاربة وقتل النَّفس بغير حق، ونحو ذلك مما يزيل عصمة الدماء.

أو معناه: لا يفعل ذلك بعضكم ببعض، على جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلًا أو دينًا، وهذا المعنى اختاره الزمخشري ويشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" (١).

وقد يظن في بادئ الأمر أن هذا النَّهي لا فائدة فيه، ولكن متى تأمل الاحتمالات المتقدمة تلاشى ذلك الظن، وعلم من أولها أنَّه نهى عما يعتقده فلاسفة الهند من البراهمة وغيرهم، من أنهم يقدرون في قتل النَّفس التخلص من عالم الفساد الذي هو عالم العناصر، واللحوق بعالم النور والصلاح الذي هو عالم الروح.

ولا يخفى ما في هذا النَّهي من انتظام أمر العمران، وما في ضده من الخضوع للذل المؤدي إلى خراب الدُّنيا، وجعل أصحاب هذا الفكر خاضعين لسلطة الغير عليهم، ثم إذا انتقلوا بقتل أنفسهم إلى عالم النور الذي يتوهمونه وصلوا إلى عالم الظلمة، فيتألمون به أبد الآباد، ولما كانوا في هذيان وضلال، ردهم تعالى إلى الحق في هذه الآية والتي قبلها.

وفي قوله تعالى: {لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} سر آخر، وهو أنَّه أشار بالكاف والميم الدالين على الجمع، إلى أنَّه متى كانت الملة واحدة كان جميع المتبعين لها كرجل واحد، قال عليه الصَّلاة والسلام: "إنَّما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" (٢). وقوله: {ولا تخرجون أنفسكم من


(١) هو في "صحيح الجامع الصَّغير" برقم (٧٢٧٦).
(٢) المصنف نقله عن الطبري. قال الشَّيخ شاكر: الظاهر أنَّه رواه بالمعنى. ونص الحديث كما في "صحيح الجامع الصَّغير" رقم (٥٨٤٩): "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

<<  <   >  >>