للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم إنه تعالى استأنف الكلام، فقال: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} وأصل الفسق في كلام العرب: الخروج عن الشيء، والمنافقون والكفار أطلق عليهم الفسق لخروجهم عن طاعة ربهم، ولذلك قال تعالى في صفة إبليس: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: ٥٠] يعني به: خرج عن طاعته واتباع أمره.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ} الآية، صفة للفاسقين، وكشف عن معناهم، وفي الآية بحث طويل ومقام طالما رددته أفهام الفحول، فأصبحت العقول به حيرى، وسيرد عليك أثناء الكتاب حججه ودلائله في مواضعها إن شاء الله تعالى، ولكننا نكتب هنا حاصله، وما ذاك إلا في قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}، فإنه بظاهره يفهم منه بطلان ما أجمعت عليه الأمة (١) بأسرها، من أنه تعالى لم يدع إلى الكفر، ولم يرغب فيه، بل نهى عنه وزجر وتوعد بالعقاب عليه، وإذا أمعنت النظر في الآية، وجدتها لا تفيد هذا المعنى أصلًا لوجوه:

أولها: أن القرآن إنما نزل بلغة العرب، فيجب تأويله على مقتضى كلامهم، وقد استعمل الضلال في كلامهم بمعنى: الضلال في العلوم التي تستفاد من جهة النظر والاستدلال، ولما كان ضرب الأمثال يحتاج المراد منه إلى النظر نزلت منزلة العلوم النظرية، وأطلق على عدم معرفتهم ما يراد منها أضلال، ثم نسب إلى من ضرب المثل لصدوره منه، ألا تَراكَ أنك إذا ناظرت ضالًا عن طريق الهدى فأوردت له البراهين على الحق، وأوضحت له الأدلة الناطقة به، فلم يصغ إليها، ولامَك لائم على صنيعك معه، قلت له: أنا أبرهن على الهدى، وبرهاني إما أن يهدي الذي أناظره واما أن يضله، بمعنى: أنه إما أن يوقعه في الشك فيضله عن طريق قصده، وإما أن يزيده بعدًا ونفورًا واستكبارًا، فلا يذعن لناصح، ولا يصغي لمحق، وعلى كلا التقديرين فلا إشارة في الآية للجبر أصلًا، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: ١٣٦].


(١) في الأصل (اللغة) ولعله سبق قلم من المؤلف- رحمه الله-.

<<  <   >  >>