للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تعالى بقوله: {قَلِيلًا} إلى أن الفاني بأجمعه، قليل بالنسبة إلى اليسير الباقي، {وَإِيَّايَ} خاصة {فَاتَّقُونِ}، أي: اجعلوا لكم وقاية من إنزال غضبي، فالتقوى نتيجة الرهبة، كما أن هذه الأفعال نتيجة ما في الرهبة.

ثم قال تعالى ينهاهم عن تبديل كتابهم المنزل على نبيهم، فقال:

{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)}.

فقوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ}، أمر بترك الكفر والضلال، وقوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}، أمر بترك الإغواء والإضلال، فالمناسبة بين الآيتين ظاهرة، ولا يخفى أن إضلال الغير ليس له إلا طريقان:

أحدهما: أن يكون قد سمع دلائل الحق، وهذا هو المشار إليه بقوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}.

ثانيهما: أن يكون بحيث لم يسمع شيئًا من دلائل الحق، فإضلاله إنما يكون بإخفاء تلك الدلائل عنه، ومنعه من الوصول إليها، وهذا هو المشار إليه بقوله تعالى: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}، والمعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها، فيختلط الحق المنزل بالباطل، الذي كتبتم، حتى لا يميز بين حقها وباطلكم، فالباء حينئذ صلة. وإن جعلتها للاستعانة، كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسًا مشتبهًا بباطلكم الذي تكتبونه، وكتمانهم الحق أن يقولوا: لا نجد في التوراة صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو لا نجد حكم كذا، أو يمحوا ذلك ويكتبوه على خلاف ما هو عليه، وأنتم في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، وهو أقبح لهم، لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه.

وهذا الخطاب وإن كان واردًا في بني إسرائيل، فهو تنبيه لسائر الخلق، وتحذير من مثله، فصار الخطاب وإن كان خاصًا في الصورة، لكنه عام في المعنى، وأنت ترى كثيرًا من الذين يروجون مقاصدهم يؤولون الأدلة، ويحيلونها إلى وجه بعيد، ويكتمون الحق ويسترونه بالباطل، حتى إذا كانت الأدلة لهم، قاموا في تأييدها ونصرتها، وإن كانت عليهم حرفوها وبدلوها، ونبذوها وراء ظهورهم، فكتموا الحق تارة، وَلبسوه بالباطل تارة ثانية.

<<  <   >  >>