للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)}.

لما كان الهبوط المذكور في الآية المتقدمة، يحتمل أن يكون من مكان من الجنة إلى أدنى منه، ولم يخرجوا منها، كرره هنا للتأكيد لشؤم المعصية، وتبشيعًا لها، وأتى بلفظ {جَمِيعًا} ليدل على معنى: لا يتخلف منكم أحد، سواء كان ذلك في آن واحد، أو على التعاقب، وأيضًا كرره لما نيط به من زيادة قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ}، أي وعَهِدنا إليهم عند الهبوط إلى دار التكليف، أنا نأتيهم بالهدى ليؤديهم إلى الجنة مرة أخرى، واعدين من اتبع، متوعدين من امتنع، فقلنا: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} برسول أبعثه إليكم، وكتاب أنزله عليكم، {فَمَنْ تَبِعَ} أدنى اتباع يُعتد به، وسعى أثر علم الهدى، {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من شيء آت، فإن الخوف اضطراب النفس من توقع فعل ضار، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على شيء فات، لأنهم ينجون من النار ويدخلون الجنة، والحزن: توجع القلب لأجل نازح قد كان في الوصلة به روح، والقرب منه راحة، وهو معنى قول الصحاح، الحزن خلاف السرور، وفي الآية إشارات:

أولاها: أن في قوله {جَمِيعًا} إشعارًا بكثرة ذرية الخلقين من آدم وإبليس. وكثرة الأحداث في أمر الديانة من الثقلين، كما وقع من أن كل فئة انتحلت نحلة وابتدعت بدعة.

ثانيها: أن الهدى الذي هو البيان، لا يستلزم الاهتداء، بل لا بد أن يكون مشفوعًا بالاتباع، كما أن القول لا يفيد شيئًا ما لم يكون مقرونًا بالعمل.

ثالثها: أنه قال تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} فأضاف الهدى إلى نفسه، إشارة إلى أن كل ما هو في صورة هدى، ولم يكن مأخذه من الوحي المنزل على الأنبياء لا يسمى هدى، ولا ينفي عن صاحبه الخوف والحزن يوم القيامة، وإذا كان من طريق العقل، فشرطه أن يوافق ما أتت به الرسل، ومن ثم قال العارف "عمر السهروردي" في كتابه "رشف النصائح الإيمانية": العقل حجة الله الباطنة، والقرآن حجته الظاهرة. وحكى الرازي عن القاضي: أنه استدل بهذه الآية على إبطال التقليد، لأن المقلد لا يكون متبعًا للهدى، انتهى.

<<  <   >  >>