للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ} الآية، وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} الآية، ليس فيه إخراج التوجه إلى القبلة عن {الْبِرَّ}، كما هو الظاهر من جهة أن فيه، {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ}، ومن شروطها التوجه إلى جهة القبلة، ولكن المراد نفي الكمال، لا نفي أصل البر. كأنه قال: {لَيْسَ الْبِرَّ} كله هو هذا، فإن البر اسم لمجموع الخصال الحميدة، واستقبال القبلة واحد منها، فلا يكون ذلك تمام البر؛ أو يقال: إن {لَيْسَ} نفت الأصل, لأن استقبالهم {الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} بعد النسخ، كان إثمًا وفجورًا، فلا يعد في البر؛ أو يقال: إن استقبال القبلة لا يكون برًا، إذا لم تقارنه معرفة الله تعالى، وإنما يكون برًّا مع الإيمان, وما عطف عليه في هذه الآية.

وترتيب المذكورات جارٍ على ألطف الحكمة, لأنه تعالى قدم الإيمان به تعالى، المتضمن للإقرار بوجوده، وباتصافه بما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله؛ ثم ثنى بـ {الْيَوْمِ الْآخِرِ} , لأنه أبعد الأشياء عن الحقائق، عند المنكر له، ومن لا يعرفه ولا معنى به، ثم ثلث بـ {الْمَلَائِكَةِ}، اعتبارًا للترتيب الوجودي، لأن الملك يوجد أولًا، ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتب، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول، وأيضًا فإن الوحي إلى الأنبياء، إنما كان بوساطة الملك، وإنكار وجود الملائكة، يتضمن إنكار الوحي، فلذلك كان الإيمان بوجود الملائكة لا يتم الإيمان إلا به، ونفي وجودهم يتضمن نفي الرسالة، فلذلك قدم الإيمان بوجودهم على الإيمان بالرسل، ثم ذكر {الْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} , لأن المكلف له وسط ومبدأ ومنتهى، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات، وهو المراد بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة، وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة: الملائكة الآتين بالوحي؛ والموحى به؛ وهو الكتاب؛ والموحى إليه، وهو الرسول.

وقال الحرالّي: الإيمان بالنبيين وبما قبلهم، فيه قهر النفس وللإذعان لمن هو من جنسها، والإيمان بغيب من ليس من جنسها, ليكون في ذلك ما ينزع النفس عن هواها. انتهى.

وفي تعقيب الصدقة بالإيمان, إشعار بأنها المصدقة له، فمن بخل بها، كان مدعيًا الإيمان بلا بيّنة، وإرشادًا إلى أن في بذلها السلامة من فتنة المال. كما قال

<<  <   >  >>