مخاطبًا للمؤمنين وهم في غمارهم، تنفيرًا لهم عن الضلال الذي هو في نفسه أهل لأن ينفر عنه، فكيف وهو شماتة العدو، وبتخييله ودادتهم، وتحذيرًا لهم من مخالطته فقال:
فقوله:{ود كثيرٌ} هو تعليل لمعنى الكلام، وهو: فلا تتبدلوا الكفر بالإيمان بعد تعليله بالضلال، وذكر المفسرون أن المراد بذلك الكثير "كعب بن الأشرف"، وقيل:"حيي بن أخطب" وقيل غيرهما، والقرآن لم يعين أحدًا، وإنما أخبر بودادة كثير من أهل الكتاب، فينبغي أن يبقى المعنى على العموم في ذلك الكثير من غير تعيين، ولما كان المشركون عربًا عالمين بأن طبع العرب الثبات، لم يدخلهم في هذا الود، وقال:{من أهل الكتاب} إنباءً بأن المصافي منهم قليل، وبشر سبحانه بأن ما يودّونه من قسم المحال، بسوقه سوق المتمنى، فقال:{لو يردونكم} أي: بأجمعكم، ثم حقق أمر التمني في كونه محالًا مشيرًا بالإثبات الجارِّ إلى قناعتهم به، ولو في زمن يسير، فقال:{من بعد إيمانكم} أي: الراسخ {كفارًا}، أي: لتكونوا مثلهم فتخلدوا معهم في النار، {حسدًا} على ما آتاكم الله من الخير الهادي إلى الجنة.
والحسد: قلق النفس من رؤية النعمة على الغير، وعبر عن بلوغ الحسد إلى غاية لا حيلة معها في تركه، بقوله:{من عند أنفسهم} أي: أنه راسخ في طبائعهم، فلا تطمعوا في صرفه بشيء، فإن أنفسهم غالبة على عقولهم، ثم زاده تأكيدًا بقوله مشيرًا بإثبات الجار إلى ذمهم: بأنهم استمروا على الضلال بعد الدعوة، لا يطلبون الحق مع القدرة على تعرفه، حتى هجم عليهم بيانه، وقهرهم عرفانه ثم لم يرجعوا إليه، وما كفاهم ضلالهم في أنفسهم حتى تمنوا إضلال غيرهم بالرجوع عنه، {من بعد ما تبين لهم}، أي: بيانًا عظيمًا بوضوحه في نفسه