في هذه الآية حكمة بالغة، وبلاغة في التعبير يقصر دونها الوصف، فسبحان من هذا كلامه، قال في "الكشاف": كلام فصيح لما فيه من الغرابة، وهو: أن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكانًا وظرفًا للحياة، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف القصاص، وتنكير الحياة. لأن المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم، الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب، حتى كاد يفني بكر بن وائل، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله، فتثور الفتنة، ويقع بينهما التناحر.
فلما جاء الإِسلام بشرع القصاص، كانت فيه حياة، أيّ حياة، أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع من القتل، لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل, لأنه إذا همَّ بالقتل، فعلم أنه يقتص منه فارتدع، سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القود، فكان القصاص سببًا لحياة نفسين، هذا كلامه.
فقوله: كلام فصيح، لما فيه من الغرابة، جعل فيه أحد الضدين محلًا للآخر، وهذا الجعل، إما أنه وهم منه أو تسامح, لأن شرط تضاد الحياة والموت، اجتماعهما في محل واحد تقديرًا، ولا تضاد بين حياة غير المقتص منه وموت المقتص.
والبلاغة التي أوضحها في الآية بينة بدون هذا الإطلاق، وكلامه يوهم أن نفس القصاص حياة، فيرد عليه أن القصاص إزالة للحياة، وإزالة الشيء يمتنع أن تكون من ذلك الشيء وليس كذلك، بل المراد أن شرع القصاص، يفضي إلى الحياة في حق من يريد أن يكون قاتلًا، وفي حق من يراد جعله مقتولًا، وفي حق غيرهما أيضًا. كما تقدم إيضاحه في كلام العلامة رحمه الله تعالى.
ولك أن تجعل نفس القصاص سببًا للحياة، على معنى أن سافك الدم، إذا أقيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل، فكان القصاص نفسه سببًا للحياة من هذا الوجه، ولك أيضًا أن تجعل المراد بالقصاص إيجاب التسوية، فيكون المراد أن في إيجاب التسوية حياة لغير القاتل, لأنه لا يقتل غير القاتل، بخلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية، وإلى هذا جنح السدي، فروى عنه ابن جرير بأنه قال:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، بقاء، لا يقتل إلا القاتل بجنايته.