للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وليعلمنا تعالى آداب المناظرة، وأنه كيف ينبغي فيها التدرج من الإجمال إلى التفصيل، ومن الغيب إلى الحُضُور، ومثال ذلك: أنك تبين لمن تنصحه حكاية تاريخية على وجه النصح، وتذكر له عاقبتها، ثم تمثلها له تمثيلًا ظاهرًا للعيان، ليرى بداية الحال وتتضح له المعاقبة تمام الإيضاح، فمن ثم فعل معهم كما أخبر عن ذلك بقوله:

{قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)}.

يقول سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام:

{يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ}، أي: أخبرهم، والضمير عائد إلى الملائكة، بأسماء الذين {عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ}، وإنما كان ذلك الأمر لأجل إظهاره عجز ملائكته الذين سألوه أن يجعل لهم الخلافة في الأرض، ووصفوا أنفسهم بأنهم أهل طاعته والخضوع لأمره، دون غيرهم الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وليعلمهم جهلهم بمواقع تدبير الحكمة الإلهية، ومحل القضاء، قبل إطلاعه إياهم عليه، على نحو ما جهلوه من أسماء الذين عرضهم عليهم، إذ كان ذلك مما لا يعلمهم فيعلموه، وأنهم وغيرهم من أهل العناد لا يعلمون من العلم إلا ما علمهم إياه ربهم، وأنه يخص من شاء من الخلق بما شاء من العلم، ويمنع منه من شاء، كما علم آدم أسماء من عرض على الملائكة؛ ومنعهم علمًا إلا بعد تعليمه إياهم.

ومن هذا تعلم أن معنى قوله: {بِأَسْمَائِهِمْ}: إنما هو بأسماء المسميات التي عرضها على الملائكة، والضمير كناية عما تضمنه قوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ}، {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ}، أي: أخبرهم بما لم يعرفوه، وأيقنوا أنهم كانوا مخطئين في قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}، الآية، وأقروا بذلك، قال لهم ربهم:

{أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، والغيب هو: ما غاب عن أبصارهم، فلم يعاينوه، وكان ذلك من الله عز وجل توبيخًا لهم على ما سلف من قيلهم، وفرط منهم من خطأ مسألتهم.

<<  <   >  >>