للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهنا للحكماء مقال وتعليل، فإنهم قالوا:

إنّ أقسام الأفعال خمسة بالقسمة العقلية، وذلك لأن الفعل؛ إما أن يكون خيرًا محضًا، أو شرًا محضًا، أو ممتزجًا، والممتزج إما أن يتساوى فيه الأمران، الخير والشر، وإما أن يكون الخير غالبًا والشر مغلوبًا، وإما العكس.

فهذه أقسام خمسة لا سادس لها. فأما الخير المحض فالحكمة تقتضي إيجاده، وأما الذي يكون الخير فيه غالبًا فالحكمة تقتضي إيجاده أيضًا، لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، فالملائكة ذكروا الفساد والقتل، وهو شر قليل بالنسبة لما يحصل من بني آدم من الخيرات. فقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، معناه: إني أعرف أن خيرهم غالب على هذه الشرور، فلذاك اقتضت الحكمة إيجادهم وتكوينهم.

ونقول: إن الملائكة لما قاسوا الغائب على الشاهد، ونظروا إلى أنفسهم نظرة الكمال، كان لسان حالهم يقول: لا يمكن إبداع عالم أحسن من عالمنا، وأقدر على نوال العلم منا، وكانت القدرة الإلهية لا منتهى لإبداعها واختراعها، لا جرم قال لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، فقالوا ما قالوه مما وصل إليه علمهم، وانتهى إليه مرمى نظرهم، فلما أظهر تعالى ما أراده وظهر بشرًا سويًا، أراهم أن هذا النوع قد تصل أفراده إلى درجات لا يصلون إليها، في العلوم والمعارف، والارتقاء معرفة بالربوبية، وبما يجب لها، وبما أودعه تعالى من خزائن الأسرار في الأرض والجو، والعوالم وخصائصها، أراد أن يريهم نموذجًا من استعداد ذلك النوع، فـ {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} فكان ما كان من أمرهم، فأقنعهم البرهان، إلا واحدًا وهو إبليس، وقد قص الله علينا هذه القصة لنعتبر بها فلا نرضى بالدون من المقامات، ولا نقف موقف الجمود، بل نطلب الرقي دائمًا في العقل، والأفكار، والأعمال، والعلوم والمعارف، وأن نطلب البرهان الحقيقي حتى إذا لاح لنا نتبع نتائجه، ولا نكابر شططًا وغلطًا، فإذا فعلنا ذلك كنا من أولاد ذلك الأصل الطاهر من علمه الله الأسماء كلها، وإذا أخلدنا إلى ما توحيه لنا أنفسنا الشريرة، فارتكبنا متن الشطط، واتبعنا الهوى،

<<  <   >  >>