لأنَّ الآيات الآتية في هذا المعنى تدل على أنهم كانوا يحرفون كلام الله مطلقًا، سواء كان في أسفار موسى عليه السَّلام، أو في غيرها.
ودل ظاهر قوله تعالى، {ثم يحرفونه} باعتبار الضمير العائد إلى كلام الله، أن التحريف كان للفظ، لأنَّ كلام الله إذا كان باقيًا على جهته وغيروا تأويله، فإنَّما يكونون مغيرين لمعناه، لا لنفس الكلام المسموع، والتحريف هنا مطلق لا يدل على أنهم حرفوا أي نوع، هل هو صفة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، أو غيرها، فينبغي أن يحمل على جنس التحريف، وإذا حمل على الجنس ارتفع الوثوق بجميع الأنواع، لأنَّ كل نوع يتطرق الظن إليه بأنه ربَّما يكون من المحرف. ولما كان سلف أولئك القوم يتعمدون التحريف، وكان المقلدة من خلفهم لا يقبلون إلَّا قولهم، ويأخذونه على علاته، ولا يلتفتون إلى قول الحق ولو أضاء لهم الدليل السبيل، وظهرت الحجة ظهور الشّمس في الضحى، كان ذلك سببًا لليأس من إيمان مقلديهم. وهذا كقولك للرجل: كيف تفلح، وأستاذك فلان؟ أي: وأنت عنه تأخذ ولا تأخذ عن غيره، وهذا معنى ما نقله الرَّازي عن القفال، وهو حسن، وأنت جبير بأن المسبب يدور مع السبب وجودًا وعدمًا، فكأن المعنى: أن إيمان أولئك المقلدة لأسلافهم من المحرفين، لا مطمع فيه ما داموا في الجمود في التقليد لهم، فإذا ارتقوا عما هم فيه من الجمود، إلى درجة التحقيق، واستضاؤوا بضياء البرهان، رجي إيمانهم، كما حصل لعبد الله بن سلام وأضرابه، ولذلك كان مما امتن الله به على أفاضل علماء هذه الأمة، أنهم يدورون مع الحق كيفما دار، ويميلون معه حيثما مال، فلا يجمدون على قول متقدم لمجرد تقدمه، ولا يغترون بما يقول من هو مشهور بين النَّاس، بل يقولون: الرجال تعرف بالحق، وليس الحق يعرف بالرجال.
وهنا يجدر بنا أن نلم بمسألة جديرة بالاهتمام، مُعِينَة على بيان مواضع كثيرة من تفسير آي الكتاب، وهي أننا نذكر محصل فصل حكاه الحكيم السموأل بن يهوذا الذي كان يهوديًا فأسلم، في كتابه "بذل المجهود في إقناع اليهود" وهذا الكتاب ينقل فيه عبارة التوراة بالعبرانية وينقلها إلى العربيَّة، ويناقش اليهود بها، وذلك الفصل