للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بل تكون مشاهدته للأشياء كأنه يراها من وراء ستر دقيق، ولا ننكرنَّ تفاوت درجات الكشف، فإن البصيرة الباطنة كالبصر الظاهر، وفرق بين ما يتضح في وقت الإسفار، وبين ما يتضح وقت صحوة النهار.

والثالث: أن علم الله تعالى غير مستفاد من الأشياء، بل الأشياء مستفادة منه، وعلم العبد بالأشياء تابع للأشياء وخالص بها، وهذا هو الفرق بين الصفتين كما أشار إليه "الإمام الغزالي" في "المقصد الأسنى".

ثم قال في تفسير "الحكيم": إنه صاحب الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء، بأفضل العلوم، وأجل الأشياء، هو الله تعالى، ولا يعرف كنه معرفته غيره، فهو الحكيم الحق، لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم، إذًا أجل العلوم هو العلم الأزلي الدائم، الذي لا يتصور زواله، المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليه خفاء وشبهة، ولا يتصف بذلك إلا علم الله تعالى، وقد يقال لمن يحسن دقائق الصناعات: ويحكمها ويتقن صناعتها حكيم، وكمال ذلك أيضًا ليس إلا لله، فهو الحكيم الحق. ومن ثم كان من عرف جميع الأشياء ولم يعرف الله تعالى، لا يستحق أن يسمى حكيمًا، لأنه لم يعرف أجل الأشياء وأفضلها، والحكمة أجل العلوم، وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم، ولا أجل من الله، ومن عرف الله فهو حكيم، وإن كان ضعيف الفطنة في سائر العلوم الرسمية، كليل اللسان قاصر البيان فيها، إلا أن نسبة العبد إلى حكمة الله كنسبة معرفته به إلى معرفة الله بذاته، وشتان بين المعرفتين، فشتان بين الحكمتين، هذا ما قاله. ومنه يتضح سر ختم هذه الآية بهذين الاسمين، لأن الملائكة لما ادعوا العلم بالأشياء، وزعموا الاطلاع على حكمة خلق آدم، بين لهم تعالى الفرق بين علمه وعلمهم، وحكمته وحكمتهم، فأذعنوا لذلك ونفوا العلم الحقيقي، والحكمة الحقيقية عن أنفسهم، وأثبتوا ذلك لله تعالى بطريق القصر المستفاد من تأكيد اسم "إن" بـ {أَنْتَ} الدال على الخطاب، ثم أثبت لهم هذا المعنى على طريق أبسط من قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وأشرح له، لينتقلوا من مقام الغيب المعلوم من {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، إلى مقام المشاهدة، وهو أبلغ من غيره وأقنع في البحث.

<<  <   >  >>