والثاني: ما لا يدرك بالحواس الظاهرة، ويسمى: الغيب، والأمر، والملكوت.
فالأول يدركه عامة الناس، والثاني يدركه أولو الألباب، الذين خلصت عقولهم عن الوهم والوساوس، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى:{لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، فالله تعالى بكمال عنايته، جعل العالم بقسميه محتويًا على جمل وتفاصيل من وجوه متعددة، دليلًا على وحدانيته بعض ذلك الدليل أوضح من بعض، ليشترك الكل في المعرفة، فيحصل لكلّ بقدر ما هُيِّئ له، اللهم إلا أن يكون ممن طبع على قلبه، فذلك هو الشقي، والعياذ بالله تعالى.
ولما سطعت البراهين في هذه الآية، وقررت أدلة التوحيد القاهرة القاطعة، أردف تعالى ذلك بتقبيح ما يضاد التوحيد، لأن تقبيح ضد الشيء مما يؤكد حسن الشيء، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. أردف تعالى الآية الدالة على التوحيد بقوله:
قالوا: الواو، عاطفة هذه الآية على ما قبلها، على ما قلنا بمناسبتها لها؛ ويصح أن يكون التقدير: فمن الناس من عقل تلك الآيات فآمن بربه، وفني بحبه، {وَمِنَ النَّاسِ} وهم من لا يعقل {مَنْ يَتَّخِذُ} الآية، فيكون العطف على مقدر.
والندّ: المثْل المنازع، ويحمل هنا على العموم، فيشمل الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى، ورجوا من عندها النفع والضر، وقصدوها بالمسائل، ونذروا لها النذور، وقربوا لها القرابين، ويشمل السادة الذين كانوا يطيعونهم، فيُحلون لمكان طاعتهم ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله.
ويرجح هذا الثاني، أن الله تعالى ذكر بعد هذه الآية:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} وذلك لا يليق الا بمن اتخذ الرجال أندادًا وأمثالًا لله تعالى،