ولما كان المشركون يعتقدون ربوبيتين، ربوبية الله، وربوبية آلهتهم، وكان لفظ الرب يشترك فيه الربوبيتان، على نحو ما كانوا يزعمونه، وصفه بقوله:{الذي خلقكم}، أي: اعبدوا الرب الحقيقي، الذي خلقكم، فإن ما سواه ليس بخالق فلا يستحق العبادة، وجملة {لعلكم تتقون}، حال من فاعل {خلقكم}، والمعنى: اعبدوا ربكم طالبًا منكم التقوى، ويصح أن تكون حالًا من المفعول، وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين، لأنهم المأمورون بالعبادة، والمعنى: خلقكم وإياهم مطلوبًا منكم التقوى.
والأوجه عندي: أن تكون الجملة علة لما قبلها.
ومعنى {لعل} هنا التعليل، وهذا المعنى أثبته لها جماعة، منهم الأخفش، والكسائي، وحملوا عليه قوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤)} [طه: ٤٤] وإنما أثبتنا هذا لأن المفهوم من الآية أن خلقهم على تلك الحال في معنى: خلقهم لأجل التقوى، كأنه تعالى يقول: أنتم تعبدون الأوثان والأصنام، والنجوم وغيرهم من المعبودات، لتقربكم إلينا زلفى، وتجعلونهم واسطة، كأن أبواب الرحمة عليها حارس لا يدخل إلا الأفراد، وأن ما تعبدونهم لا يدفعون عن أنفسهم ضرًا، ولا يجلبون لها نفعًا، فكيف ينفعون غيرهم؛ أو يضرونهم، وحيث أنكم عبدتموهم لعلة الواسطة، فانظروا إلى الحقيقة الأصلية، فاعبدوا الذي خلقكم وخلق أسلافكم، وأصنامكم، لأجل هذه القدرة الباهرة، والحكمة العظيمة، ولما كانت التقوى قصارى أمر العابد، ومنتهى جهده قال هنا:{لعلكم تتقون}، لأن التقوى إذا لزمتهم كان ما هو أدنى منها أكرم، والإتيان به أهون.
ثم اعلم أن الآية الكريمة مع كونها بعبارتها ناطقة بوجوب توحيده تعالى، وتحتم عبادته على كافة الناس، مرشدة لهم بطريق الإشارة، إلى أن مطالعة آيات الكون، المنصوبة في الأنفس والآفاق، مما يقضي بذلك قضاء متقنًا، وقد بين فيها أولًا من تلك الآيات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم، وخلق أسلافهم، لما أنه أقوى شهادة وأظهر دلالة، ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم فقال: