للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كل من ربي على عادة سيئة، لا بد أن ينزع إلى عادته مهما طال فراقها، ودنيء الأصل مهما هذبته، لا بد أن يقابل النعمة بالكفران، والحسنة بالسيئة.

فلذلك كان من شأنهم ما أخبر عنه تعالى بقوله: {واذ قلتم}، أي بعد هذه النعم كلها: {ياموسى}، منادين له باسمه من غير تعظيم، {لن نصبر} صبرًا طويلًا {على طعام واحد}، أرادوا ما رزقوا في التيه من المن والسلوى، وجعلوهما طعامًا واحدًا، وإن كانا اثنين، باعتبار أن ذلك الطَّعام لا يتبدل وإن كان متعددًا، وإن كان شريفًا لا تعب فيه. أو أن المعنى كأنهم قالوا: إن المن والسلوى ضرب واحد لأنهما من طعام أهل التلذذ والترف، ونحن قوم فلاحة أهل زراعات، فما يزيد إلَّا ما ألفناه من الأشياء المتفاوتة كالحبوب والبقول، فلذلك قالوا: {فادع لنا ربك يخرج لنا}، يظهر لنا، ويوجد {مما تنبت الأرض من بقلها} وهو ما تنبته الأرض من الخضر، والمراد به: أطايب البقول التي يأكلها النَّاس، {وقثائها وفومها} وهو الحنطة في قول أكثر المفسرين، وهو المناسب لما هنا، لأنهم أرادوا مع هذه الأشياء الخبز، وقيل: هو الثوم، وهو الموجود في نسخة من التوراة مترجمة إلى العربيَّة في القرن الثامن، وهو للعدس والبصل أوفق، وقرأ ابن مسعود: وثومها وعدسها وبصلها.

ثم كأنه قيل: إن هذا العجب منهم، فما قال لهم موسى عليه السَّلام؟ فقيل: {قال} منكرًا عليهم: {أتستبدلون}؟ أي: أتأخذون {الذي هو أدنى} في المنزلة والطعم، {بالذي هو خير}، أي: بدله، فالباء للبدل، ثم كأنه قيل: فهل أجابهم إلى سؤالهم؟ فقيل (١): نعم، قال: {اهبطوا مصرًا} من الأمصار، فـ {إن} فيه {لكم ما سألتم}، وينقطع عنكم المن والسلوى، و "المصر" هو: البلد الجامع لما يتعاون عليه من أمور الدُّنيا، التي تجمع هذه المطالب التي طلبوها، لأنَّ ما دون الأمصار لا يكون فيها، إلَّا بعضها، والهبوط هنا بمعنى النزول، يقال: هبط فلان الوادي، إذا نزل به، وهبط منه إذا خرج، والمعنى: انحدروا من التيه إلى مصرٍ من الأمصار.


(١) الأصل: (فقال) والتصويب من "نظم الدرر" ١/ ٤١٤.

<<  <   >  >>