للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الكعبة، ارتد فيما ذكر رجال ممن كان قد أسلم، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم، وقالوا: ما بال محمد، يحولنا مرة إلى ها هنا ومرة إلى ها هنا؟ وقال المسلمون، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين، وهم يصلون إلى بيت المقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت. وقال المشركون: تحير محمد في دينه، وقال قائلون: لقد اشتاق الرجل إلى بلد أبيه ومولده، فكان ذلك فتنة للناس، وتمحيصًا للمؤمنين.

وعندي أن من جملة الحكمة في ذلك التحويل، تعليمنا قاعدة عظيمة من قواعد السياسة؛ وهي أن الأمير إذا أراد أن يختبر رعيته، أمرهم اليوم بأمر هو أمرهم قبل بخلافه، ولا سيما إذا كان الثاني مخالفًا لعادتهم ومألوفهم، يمتحنهم بذلك، ليعلم المطيع منهم، ومن كان مضمرًا للمخالفة. فقوله تعالى: {لِنَعْلَمَ} لم يرد حقيقة العلم لنفسه، وإنما أراد به التنزل في الخطاب، ليعلمنا أن السياسة في مبدئها تكون بالمساواة، فنزل سبحانه - تعليمًا لنا - نفسه منزلة المخاطبين، في كونهم لا يعلمون الأشياء إلا بعد كونها، لا أن المقصود أن هذا الشيء كان غائبًا عنه، ثم فعل ذلك ليعلمه، تعالى الله عن ذلك. وهذا يشير إلى المساواة تنزيلًا لا حقيقة، وفي هذا من الحكمة والنفع لنا، ما لا يعلمه إلا من أوتي فهمًا في كتاب الله تعالى، وفقهًا فيه، ألا ترى أنه تعالى لما أشار إلى هذا، انتقل إلى بيان شدة التحويل، على من أخلد إلى العادة بغلبة القوة الحيوانية البهيمية، ولم يتمرن في الانقياد للأوامر الإلهية على خلع وذل النفس، فقال: {وَإِنْ كَانَتْ} أي: الجعلة المشار إليها بقولنا: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} {لَكَبِيرَةً} أي: ثقيلة شاقة جدًا، لأن مفارقة الإلف بعد طمأنينة النفس إليه، أمر شاق جدًا.

ثم استنثى من أيده بروح منه وسكينة فقال: {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي: جعل الهداية في قلوبهم، فانقادوا لما هداهم إليه بنصب الأدلة؛ أي: إلا الثابتين الصادقين في اتباع الرسول، الذين لطف الله بهم، وكانوا أهلًا للطفه، ولما كان قبولهم لهذا الأمر، وثباتهم عند تغير الأحكام، إنما كان عن إيمان وعلم محيط، جعل الله أعمالهم وتوجههم إلى القبلة الأولى من الإيمان، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ

<<  <   >  >>