ومثل هذا يقال لكل من علم الحق بأدلته وبراهينه، ثم انقلب عنه إلى الباطل بأدنى شبهة، وإذا لامه لائم على فعله تعلل بأنه وافق غيره، قائلًا للأئمة: أكل هؤلاء القوم مخطئون وأنت وحدك المصيب؟
وفي هذه الآية تقريع لهم من وجه آخر، وهو أنَّه تعالى كرر هذه الآية لدعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم وهم كاذبون في ذلك، ألا ترى أن اتخاذ العجل ليس في التوراة، بل فيها أن يفرد الله بالعبادة.
ولما كانت عبادة غير الله أكبر المعاصي، كرر الخبر بعبادتهم العجل تنبيهًا على عظم جرمهم، والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء أو تعظيمه كررته، وفي هذا التكرير أيضًا من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم، ونقمه منهم ليزدجر الأخلاف بما حل في الأسلاف.
ثم إنه تعالى ذكر أمرًا آخر هو أبين في عنادهم، وأنهم لم يزالوا دائمًا عبيدًا لهوى أنفسهم فقال:
لهذا التكرار فوائد، أحدها: ما ذكر آنفًا. وثانيها: أن هذا وأمثاله للتأكيد، وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب. وثالثها: أنَّه تعالى ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}، وذلك يدل على نهاية لجاجهم. ويظهر لي وجه رابع، وهو: أن التكرار هنا للتبكيت والتقريع، على حد لو أن إنسانًا فعل أمرًا منكرًا ما كان من حقه أن يفعله، ثم إنه أصر على خطئه عنادًا، فإن الموبخ له لا يزال يذكره بفعله كلما أصر على عناده، ليكون ضميره موبخًا له، وملجئًا له إلى الرجوع عن غيّه، وأيضًا فإن في قصة الطور ذكر توليهم عما أمروا به من قبول التوراة، وعدم رضائهم بأحكامها اختيارًا، حتَّى ألجئوا إلى القبول اضطرارًا، فدعواهم الإيمان بما أنزل عليهم غير مقبولة، ومن أسرار هذا التكرار أيضًا،