للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما انتفى في الآية الأمران، علم أن الكائن غير ما ادعوه، فصرح به في قوله:

{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١)}.

فكذب تعالى القائلين من اليهود: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، وأخبر: أنَّه تعالى يعذب من أشرك به، وكفر به وبرسله، وأحاطت به ذنوبه، ويجعله مخلدًا في النَّار، فقوله تعالى: {بلى}، إثبات لما نفوه من مساس النَّار لهم، فإن {بلى}، و "بل" حرفا استدراك، ومعناها نفي الخبر الماضي، وإثبات الخبر المستقبل, أي: بلى تمسكم النَّار وتخلدون فيها، بدليل قوله: {هم فيها خالدون}.

وقوله: {من كسب سيئة}، فسر قتادة ومجاهد السيئة هنا بالشرك بالله تعالى، وبذلك قال غيرهما من المفسرين، فجعلوا السيئة في هذه الآية من الخاص، وقالوا: هي وإن كان لفظها يدل على العموم، لكن لما قضى الله على أهلها بالخلود في النَّار، وكان الخلود بها لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به، لتظاهر الإخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها، وأن الخلود في النَّار لأهل الكفر، كان هذا قرينة على التخصيص، وإلى هذا جنح الطبري: وذهب غيره إلى إبقاء السيئة على عمومها وتناولها جميع المعاصي، ولكن لما كان من الجنائز أن يظن أن كل سيئة صغرت أو كبرت، فحالها سواء في أن فاعلها يخلد في النَّار، أردفها بقوله: {وأحاطت به خطيئته}، ليدل على أن الذي يستحق به الخلود هو الذي تكون سيئته قد أحاطت به، ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر، كإحاطة السور بالبلد، والكوز بالماء، وذلك ههنا ممتنع، فيحمل حينئذٍ على ما إذا كانت السيئة كبيرة، لأنَّها تحيط بثواب الطاعات، فتكون كالستارة لها، وإذا أحاطت بها كانت مستولية على تلك الطاعات ومحيطة بها، فكأنه تعالى قال: بلى من كسب كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعته، فأولئك أصحاب النَّار هم فيها خالدون.

<<  <   >  >>