للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمعنى: وأنتم تدرسون وتقرؤون التوراة، وفيها الوعيد على الخيانة وترك البر، ومخالفة القول العمل، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} يعني: أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه، حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول، لأن ما أتيتكم به تأباه العقول، وتدفعه.

وقوله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} , أعظم منبه على أن من حكم التوراة اتباعه صلى الله عليه وسلم، ومشير إلى أن المعصية من العالم، أقبح منها إذا صدرت من غيره، وذلك أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق، ثم لم يتعظ صار ذلك الوعظ سببًا لرغبة الناس في المعصية، لأن الناس يقولون: إنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات، لما أقدم على المعصية، فيكون هذا داعيًا لهم إلى التهاون بالدين، والجرأة، على المعصية. فإذا كان غرض الواعظ الزجر عن المعصية، ثم أتى بفعل يوجب الجرأة عليها، كان قد جمع بين متناقضين، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء.

وأنت خبير بأنه ما قاد الأمة في الأزمان المتأخرة إلى الانحطاط، إلا اتباع علمائهم خطة بني إسرائيل، فتراهم إذا لاح لهم نفع دنيوي تحيلوا له بكل حيلة، ونسوا ما هو مسطور في الكتاب العزيز، وفي سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإذا لم يكن لهم من أمر نفع دنيوي أقاموا النكير، واحتجوا بالآيات وبالسنن، وأظهروا أنفسهم في مصاف الزاهدين المتقين.

ثم إنه تعالى لما أنكر على بني إسرائيل اتباع الهوى، أرشدهم إلى دوائه بأعظم أخلاق النفس، وأجل أعمال البدن، فقال عاطفًا على ما مضى من الأوامر:

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦)}.

أي: {وَاسْتَعِينُوا} على إظهار الحق، والانقياد له {بِالصَّبْرِ} على كل ما كرهته نفوسكم من طاعة الله، وترك معاصيه. وأصل الصبر: منع النفس محابها وكفها عن هواها، فهو ضياء للقلوب تبصر به ما يخفيه عنها الجزع من الخروج عن

<<  <   >  >>