للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأجاب المثبتون لهم من المتقدمين، بما يظهر منه الحيرة في الجواب، فقالوا: إنا نختار الشق الأول، وهو كونهم أجسامًا لطيفة، ولا يلزم من كونها كذلك عدم قوتها على الأفعال الشاقة، لجواز أن يفيض الله عليها مع لطافتها قوة عظيمة، فإن القوة لا تتعلق بالقوام يعني الكثافة، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: ٣١].

وأقول: قد قارب القوم في الجواب، وحاموا حول الصواب، ومخترعات عصرنا أبرزت مثل هذا للعيان لقوم يعقلون، وذلك أنه أظهر أجسامًا لطيفة تنفذ فى المسام، وتفعل ما لا يقدر على فعله المئات من الناس، فهذه الكهرباء السارية في الوجود تسير السفن البرية، وتدير آلات الصنائع بسرعة فائقة، وتجر ما لا يقدر على جره العصبة أولو القوة، وتظهر الأضواء، وتنقل الكلام من قطر إلى قطر آخر، كما يفعله التلغراف والتلفون، وإذا مسها شخص سارت بسرعة في جميع أعضائه فتسري مسرى الدم، ومع ذلك فهي أجسام لطيفة لا نراها، وإنما نرى آثارها، فلو رآها الفلاسفة المتقدمون، لعدلوا كثيرًا من تعاليمهم، فأي مانع مع مشاهدة هذا أن يكون لله خلق لطيف، يقدر على الأعمال الشاقة. وكذلك يقال: إن الأطباء اليوم اكتشفوا لأسباب الأمراض سببًا يقال له الجراثيم، وهم يسمونه بالميكروب، ومن قوة بعضه أنه يسري في اللحم والدم، فأي مانع حينئذٍ أن يخلق الله أجسامًا لا ترى، وهي تجري من ابن آدم مجرى الدم، فليتأمل العاقل بديع قدرة الله تعالى، ويعلم أنه لا يعجزها شيء.

هذا وقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} معناه والله أعلم: اني مصير في جميع الأرض خليفة، والخليفة: من يخلف غيره، ويقوم مقامه، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} [يونس: ١٤] {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ} [الأعراف: ٦٩ و ٧٤] فالآية تدل على أن الأرض كانت مسكونة بعالم غير آدم، والله تعالى جعله خلفًا عنهم، وأما جنس هذا العالم وصفته وكيف هو، فالقرآن الكريم لم يصرح به، ولم يأتنا ببيانه حديث صحيح يعول عليه في البيان، فالبحث عنه ليس من غرض المفسرين، وروى ابن جرير الطبري، عن عطاء، عن

<<  <   >  >>