أولها: هداية الوجدان والإلهام الفطري، وهذه تكون للأطفال فإنهم عندما يولدون، يهديهم الله إلى الشعور بألم الحاجة إلى الغذاء، فيصرخ طالبًا الثدي بفطرته، فإذا وصل إليه امتصه والتقمه.
والثانية: هداية الحواس والمشاعر، هما من متممات الهداية الأولى في الحياة الحيوانية، وهذه يشترك فيها الإنسان والحيوان الأعجم، إلا أنها تكون للحيوانات العجم كاملة بالنسبة لاستعداده بزمن قليل، وتكون للإنسان بالتدريج في زمن غير قصير، وما ذلك إلا لأنه مستعد للوصول إلى الكمالات فلا يقف عند حد، فلذلك تزداد فيه كلما ازداد عقلًا وإدراكًا، إلا أن عقله أكثر نموًا منها، ولذلك كثيرًا ما يغلط الحس.
والثالثة: هداية العقل، وهي للإنسان، لأنه ما خلق ليعيش منفردًا، بل خلق ليعيش مجتمعًا، ولم يعط من الإلهام والوجدان ما يكفي مع الحس الظاهر لهذه الحياة الاجتماعية، كما أُعطي النحل والنمل، فكان كل واحد مؤديًا وظيفة العمل للجميع، ووظيفة العمل للواحد، كما هو مشاهد، فمن ثم أعطى الله الإنسان هداية هي أعلى من هداية الحس والإلهام، ألا وهي العقل المصحح لغلط الحواس والمشاعر، فإذا أدركت الحواس شيئًا وأخطات في إدراكها له، قام العقل حاكمًا بفساد ذلك الإدراك.
والرابعة: هداية الدين، وهي المهيمنة على الكل، لأن العقل قد يغلط أيضًا، وربما يهوي في دركات الزلل، لتسلط القوة الشهوانية عليه، وحكم العادة عليه أيضًا، فإذا وقعت المشاعر في مزالق الزلل، وصار العقل رفيقًا للحظوظ استنبط لها أنواع الحيل، واسترسل في ذلك استرسالًا يمنع الإنسان من أن يعيش سعيدًا، لأن هذه الحظوظ والأهواء ليس لها حدّ تقف عنده، ولا يمكن صاحبها أن يعيش منفردًا، فتستطيل يده بالتعدي على مال غيره وعلى نفسه، فتحصل المدافعة والمجادلة، والمواثبة، والحروب، والسلب والنهب، حتى يكاد الجنس