للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

القوادح، فلما لم يأتوا بها، علمنا عجزهم عنها، وبهذا البيان ظهر بطلان القسمين الأولين، وثبت القسم الثالث، وأن القرآن لا يماثل قولهم، وأن التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتًا معتادًا، فهو إذن تفاوت ناقض للعادة، فوجب أن يكون معجزًا، فهذا هو المراد من تقرير هذه الدلالة. فظهر أنه سبحانه كما لم يكتف في معرفة التوحيد بالتقليد، فكذا في معرفة النبوة لم يكتف بالتقليد.

ويقال في تقرير الدليل وجه آخر، وهو أن هذا القرآن لا يخلو من أن يكون بلغ في الفصاحة حد الإعجاز، وإما أن لا يكون قد بلغ هذا الحد، فإن كان الأول ثبت أنه معجز، وإن كان الثاني كانت المعارضة ممكنة على تقديره، فعدم إتيانهم بها مع كونها ممكنة، ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها أمر خارق للعادة، يثبت كونه معجزًا على جميع الوجوه.

واعلم أن القرآن العظيم مشتمل على أنماط من الإعجاز كثيرة، لكن يمكن اندماج أصنافها، واندراج أجناسها في أربعة أصول:

الأصل الأول: حسن تأليفه، وانتظام كلماته، في سلك مبانيها المتناسبة لمقتضى معانيها، المتناسقة بين أعاليها وأدانيها، وفصاحته ووجوه إيجازه، وبلاغته في عجائب التراكيب وغرائب الأساليب، وبدائع العبارات وروائع الإشارات، الخارقة عادة العرب وهم، هم: في الفصاحة والبلاغة.

الأصل الثاني: صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب، المخالف لأساليب العرب في كلامهم، ومناهج نظمها ونثرها التي جاء القرآن عليه، ووقفت مقاطع آياته، وانتهت فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل تحيرت فيه عقولهم، واندهشت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم، أو سجع أو رجز أو شعر، ومن علم فنون البلاغة، وصنوف الفصاحة، وأرهف خاطرَه ولسانَه أدَبُ هذه الصناعة، ونطق بالشعر وأبدع في النثر، لم يخف عليه ما قلناه، فمن كان في شك من ذلك، فليقتحم هذا الميدان، ليرى نفسه كيف ترجع بالخيبة والحرمان.

<<  <   >  >>