للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على أن الذي يروم تنزيله منزلة هذا أقرب كثيرًا إلى العقل فإن الأفعال والأوامر الإلهية منزهة عن الوقوف عند مقتضى العقول البشرية، وإذا كانت التعبدات الشرعية غير عائدة بنفع لله عز وجل، ولا دافعة عنه ضررًا لتنزيه الله سبحانه عن الانتفاع والتأذي بشيء، فما الذي يحيل أو يمنع كونه تعالى يأمرُ أُمةً بشريعة ثم ينهى أمة أخرى عنها، أو يحرم محظورًا على قوم ثم يحله لأولادهم، ثم يحظره ثانيًا على من يجيء بعد؟ وكيف يجوز للمتعبد أن يعارض الرسول في تحليله ما كان حرامًا على قوم، ويستدل بذلك على كذبه بعد أن جاءهم بالبينة وأوعب العقلاء تصديقه وتحكيمه؟ أليس هذا تحكمًا وضلالًا وعدولًا عن الحق؟ ! وإلى هذا يشير قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض} الآية، فرد الأمر إلى ذاته تعالى، ولم يرد على اليهود تبكيتًا لهم ونكاية بهم.

وثم وجه آخر للرد عليهم على مقتضى أصولهم، وهو أن يقال لهم: هل أنتم اليوم على ملة موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم، قلنا لهم: أليس في التوراة أن من مس عظمًا، أو وطئ قبرًا أو حضر ميتًا، عند موته صار من النجاسة في حال لا مخرج له منها، إلا برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها؟ فلا تمكنهم المخالفة في ذلك، لأنه نص ما يتداولونه.

فنقول لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟ فيقولون: لا نقدر على ذلك، فنقول لهم: كيف جعلتم لمس العظم والقبر بعد ذلك طاهرًا يصلح للصلاة وحمل التوراة، والذي في كتابكم خلافه؟ فإن قالوا: لأنا عدمنا أسباب الطهارة، وهي رماد البقرة والإمام المطهِّر المُسْتَغفِر، قلنا: فهل ترون هذا الأمر مع عجزكم عنه، مما تستغنون عنه في الطهارة أم لا؟ فإن قالوا: نعم، فقد أقروا بالنسخ لتلك الفريضة، لحال اقتضاها هذا الزمان، وإن قالوا: لا نستغني في الطهارة عن ذلك الطهور، فقد أقروا بأنهم هم الأنجاس أبدًا، ما داموا لا يقدرون على سبب الطهارة، فنقول لهم: فإذا كنتم أنجاسًا على رأيكم وأصولكم، فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض سبعة أيام، اعتزالًا تفرطون فيه إلى حدِّ أن أحدكم لو مس ثوبه ثوب المرأة لاستنجستموه مع ثوبه؟ فإن قالوا: لأن ذلك من أحكام

<<  <   >  >>