للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شأن العرب إذا أمرت رجلًا أن يُحكى ما قيل له عن نفسه، أن تخرج فعل المأمور مرة مضافًا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه، إذا كان المخبِرَ عن نفسه، ومرة مضافًا إلى اسمه، كهيئة كناية اسم المخاطب، لأنَّه به مخاطب، فتقول في نظير ذلك: قل للقوم: إن الخير عندي كثير، فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه، لأنَّه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه، وقل للقوم: إن الخير عندك كثير، فيخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب، لأنَّه وإن كان مأمورًا بِقيلِ ذلك، فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: ١٢] ويُغلبون، بالتاء والياء، ولا يستتب لك أن يجعل هذا من باب الخروج من الغيبة إلى التكلم الَّذي يسمى التفاتًا، فإن في هذا مزيدًا.

وأتى بلفظ {على} في {على قلبك}، لأنَّ القرآن مستعل على القلب، إذ القلب سامع له ومطيع، يمتثل ما أمر به ويجتنب ما نهي عنه، وكانت أبلغ من "إلى" لأنَّ "إلى" تدل على الانتهاء فقط، و "على" تدل على الاستعلاء، وما استعلى على الشيء يتضمن الانتهاء إليه، وقال: {على قلبك} ولم يقل: "عليك"، لأنَّ القلب هو محل العلم والعقل وتلقي الواردات، وهو سلطان الجسد، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (١)، ويصح أن يراد بالقلب هنا الجملة الإنسانية، ودليله أن الله قد ذكر الإنزال على نبيه - صلى الله عليه وسلم - في أماكن فقال: {طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢)} [طه] {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: ١١٣]، فأتى بالكاف المشار إليها إلى الجملة الإنسانية.

ثم وصف الكتاب المنزل بقوله: {مصدقًا لما بين يديه} من كتب الله المنزلة، التي أعظمها كتاب اليهود المبغضين لجبريل، ولو أنصفوا لكانوا أحق الناس بالإيمان به، وكان جبريل أحق الملائكة بمحبتهم له لإنزاله، وكان كفرهم به


(١) رواه البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير.

<<  <   >  >>