للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} (١) الآية.

وقوله: {وما يخدعون إلا أنفسهم}، معناه: أن المنافقين خادعوا الله والمؤمنين فلم يخدعوهم، بل كان الخداع لأنفسهم دون غيرها، لأن من خادع العالم بخداعه، لا يكون خداعه إلا لنفسه، وهذا كقولك: فلان يضار فلانًا، وما يضار إلا نفسه، أي: دائرة الضرار راجعة إليه، وغير متخطية إياه، ويصح أن يكون المعنى: وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل، ويكذبونها فيما يحدثونها به، وأنفسهم كانت تمنيهم وتحدثهم بالأماني، ونفس الشيء ذاته، والشعور: علم الشيء على حس، والمعنى: أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له.

ثم بين سبحانه أن سبب الغفلة عن هذا الظاهر، كون آلة إدراكهم شغلها المرض عن إدراك ما ينفعها، فهي لا تجنح إلا لما يؤذيها، فقال:

{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)}.

أي: إن في قلوبهم مرضًا من أصل الخلقة، يوهن قوى الإيمان التي فيها، كذا حكاه "البقاعي" في كتابه "نظم الدرر"، والذي لاح لي، أن ذلك المرض وإن كان مرضًا حقيقيًا متصلًا بهم من أصل الخلقة، وهو الذي سبَّب لهم سوء الاعتقاد والكفر، إلا أنه لما كان ذلك متأصلًا في نفوسهم، وجاءهم الكتاب العزيز بالبينات والهدى، ودين الحق، وقفوا حائرين بين أحد أمرين، إما أن يتبعوا ذلك الهدى ويطيعوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيسلموا من عذابي الدنيا والآخرة، وإما أن يجاهروا بالعصيان والامتناع، فيحصل لهم المقت دنيا وأُخرى، فمنعهم مرض قلوبهم من اتباع الخطة الأولى، ولضعفهم لم يستطيعوا المجاهرة بالثانية، فمزجوا بينهما، ولبسوا ثوب الخداع، فأظهروا الإيمان بالله وبرسوله، وأبطنوا الكفر، وارتقبوا حلول السوء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما رأوا أنه هو الغالب، وأن أمره لا يزال في ازدياد، وشأنه لم يزل في اعتلاء، امتلأت صدورهم حسدًا وحقدًا، وغلت صدورهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،


(١) سورة الحديد: الآية ١٣، وتمامها: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}.

<<  <   >  >>