للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى أجرى سنته، أن من لم يقم حرمة مساجده، شرده منها وأحوجه لدخولها تحت رقبة وذمة من أعدائه، كما قد شهدت مشاهدة بصائر أهل التبصرة، فكل طائفة ساء عملها في مسجدها شردت منه، ودخلت في بضع الأخرى خائفة، كذلك حتى تكون العاقبة للمتقين.

ولما أفهمت الآية أنه حصل لأولي الإيمان منع من عمارة بيت الله بذكره، وكان الله تعالى قد من على هذه الأمة بأن جعل الأرض كلها لها مسجدًا، سلى المؤمنين بأنهم أينما صلوا بقصد عبادتهم لقيهم ثوابه، لأنه لا تختص به جهة دون جهة لأن ملكه للكل على حد سواء، فكان كأنه قيل: فأقيموا الصلاة التي هي أعظم ذكر الله حيثما كنتم، فإنها لله، كما أن المسجد الذي منعتموه لله، عَطَفَ عليه قوله:

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية اختلافًا كثيرًا على عادتهم في هذه الآية وغيرها، وأكثر ما يذكرونه في أسباب النزول متعارض، وضعيف الإسناد، فلا ينبغي أن يقبل منه إلا ما صح، وقد صنف الواحدي وغيره في ذلك كتبًا لا يعول على ما ذكروه فيها إلا على الصحيح منه.

وقال أبو حيان في "البحر"، وعن عامر بن ربيعة: أن ذلك جرى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في السفر، ولو صح ذلك لم يعدل إلى سواه، انتهى.

أقول هذا السبب مروي بسند صحيح، فقد أخرج البخاري والبيهقي وابن أبي شيبة عن جابر بن عبدالله، قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يصلي على راحلته قِبَل المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلى".

وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي شيبة، والطبراني والبيهقي وعبد ابن حميد، عن ابن عمر، قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته تطوعًا أينما توجهت به" ثم قرأ ابن عمر {فأينما تولوا فثم وجه الله}، وقال ابن عمر: في هذا أنزلت هذه الآية.

<<  <   >  >>