للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

توحيده تعالى، وإفراده بالربوبية، والخلق والتدبير، وليعلموا أن هذه الأشياء نعمة منه تعالى، فيقابلونها بدوام الشكر، ويتفكرون في خلق أنفسهم وخلق ما فوقهم وما تحتهم، وأن شيئًا من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها، فيتيقنوا عند ذلك، أنه لا بد لها من خالق، ليس كمثلها، حتى لا يجعلوا المخلوقات أندادًا له، وهم يعلمون أنها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر، ولذلك ختم هذه الآية بقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فهو مفرع على قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ} على معنى: أن من خصكم بهذه النعم الجسام، والآيات العظام، ينبغي أن لا يشرك به، و"الند" المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف المعادي، قال "جرير" (١):

أَتَيْمٌ تجعلونَ إليَّ نِدًّا ... وما تَيْمٌ لِذي حَسَبٍ نَديدُ

فإن قلت: كان المشركون يسمون أصنامهم باسمه ويعظمونها، بما يعظم به من القرب، ولم يكونوا زاعمين أنها تخالف الله وتعاديه، بل كانوا يجعلونها شفعاء عنده، فلا تصلح تسميتها أندادًا له! قيل في الجواب:

إنهم لما تقربوا إليها، وعظموها، وسموها آلهة، أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله، قادرة على مخالفته ومضادته، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم بهم، بتنزيلهم منزلة من يعتقد أنها آلهة حقيقية، والخطاب عام لكل من كانت حالته كحالتهم، ممن يفزع في الشدائد إلى مخلوق ما، مدعيًا أنه يجعله واسطة بينه وبين خالقه.

ثم إنه تعالى ختم هذا البيان بقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، ومعناه: وحالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين الصحيح والفاسد، والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال، والإصابة في التدابير والدهاء، والفطنة، بمنزل لا تدفعون عنه، وهكذا كانت العرب، خصوصًا ساكني الحرم من قريش وكنانة، لا تنال نارهم ليصطلى بها في استحكام المعرفة في الأمور، وحسن الإحاطة بها، وقد نزل


(١) ديوان جرير بن عطية الخطفي: ١٢٩.

<<  <   >  >>