للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا وقد ظهر لي توجيه هذا من جهة ثانية، وهي أن القاتل لما تعمد القتل، ورأى أنه لم يؤاخذ به، صارت نفسه شريرة يهون عليها سفك الدماء، وإعدام كل من أغضبه وعاداه، فيقدم على القتل بلا مبالاة، ويكون بقاؤه خطرًا على المجتمع الإنساني والمدنية الفاضلة، فربما أهلك أنفسًا، وفرق بين أرواح وأجسام، فشرع الله القصاص، إشارة إلى أن مثل هذا يجب إخراجه من المجتمع المدني، لما فيه من الضرر عليه، لتتأتى حياة الباقي بعده.

ألا تراك إذا زرعت حنطة جيدة، في أرض ذات إنبات، فخرج الزرع جيدًا، ثم نبت بينه نبات مضرٌّ له، وقاتل لنموه، تسرع في إزالة ذلك المضر، وتسوقه إلى النار، ليسلم لك زرعك الذي فيه قوام حياتك، وكذلك المجتمع الإنساني، إنما هو لحفظ حياة بعضه بعضًا، فهذا تسلط عليه شرير ففتك ببعض أفراده، كانت إزالته واجبة لحياة ذلك المجتمع، ولذلك أباح الشارع مدافعة الصائل على النفس أو المال أو الحرم، وإذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل، جاز للمدافع قتله، ولقد حام عقلاء العرب وفصحاؤهم حول هذا المعنى، وقصدوا أن ينظموا ما يفيده في سلك جوامع الكلم، فلم يوفوه حقه من الشرح والبيان، كما وفته الآية الكريمة؛ فقالوا تارة: قتل البعض إحياء للبعض؛ وقالوا: أكثروا القتل ليقل القتل؛ وأجود ما قالوه في هذا الباب: القتل أنفى للقتل (١)، وأكفّ للقتل، فكانت كل جملة مما قالوه تجلب النظر نحو الاعتراض، من جهة أن ظاهر قولهم يقتضي كون وجود الشيء سببًا لانتفاء نفسه، وهو محال، ومن جهة تكرير القتل في جملة واحدة، وذلك خلاف البلاغة، والآية الكريمة سالمة من ذلك التكرار والمحال؛ وأيضًا فإن كلامهم يشمل القتل ظلمًا، مع أنه لا يكون نافيًا للقتل، والآية بخلاف ذلك, لأن حقيقة القصاص لا يندرج فيها القتل ظلمًا، بخلاف كلامهم.

وبيانه: أن القتل ظلمًا قتل، مع أنه لا يكون نافيًا للقتل، بل هو سبب لزيادته، إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص، وهو القصاص، فظاهر


(١) هو مثل عربي وقد ردّه الأديب مصطفى صادق الرفاعي بكلام طيب.

<<  <   >  >>