للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لخروجه فيه عن الصوم، ولما كان الأمر بخلاف ذلك علمنا أن الاعتكاف يجوز مفردًا أبدًا بدون الصوم.

وقد روي عن عمر، رضي الله عنه، قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف لله ليلة، فقال عليه الصلاة والسلام: "أوفِ بنذرك" (١). ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليل.

قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}، {تِلْكَ} إشارة إلى كل ما تقدم، في أول آية الصوم إلى ههنا؛ {فَلَا تَقْرَبُوهَا}، فلا تغشوها، فكأنه تعالى يقول: هذه أشياء حددتها لكم، وأمرتكم أن تجتنبوها في الأوقات التي أمرتكم أن تجتنبوها، وحرمتها فيها عليكم، {فَلَا تَقْرَبُوهَا}، وأبعدوا منها أن تركبوها، فتستحقوا بها من العقوبة ما يستحقه من تعدى حدودي، وخالف أمري، ورَكب معاصيّ.

وأبدى صاحب "الكشاف" هنا نكتة لطيفة، على عادته في استخراج اللطائف، فقال: فإن قلت: كيف قيل: {فَلَا تَقْرَبُوهَا}، مع قوله: {فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: ٢٢٩]؟ قلت: من كان في طاعة الله، والعمل بشرائعه، فهو متصرف في حيز الحق، فنهي أن يتعداه، لأن من تعداه وقع في حيز الباطل. ثم بولغ في ذلك، فنهي عن أن يقرب الحد، الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل، لئلا يداني الباطل، وأن يكون في الواسطة متباعدًا عن الطرف، فضلًا عن أن يتخطاه، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم أن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" (٢). فالرتع حول الحمى، وقربان حيزه واحد، ويجوز أن يريد بحدود الله محارمه ومناهيه خصوصًا، لقوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ}، وهي حدود لا تقرب، هذا كلامه.

قال ابن المنير، في "الانتصاف": وفي هذه الآية دليل بين لمذهب مالك في سدّ الذرائع، والاحتياط للمحرمات، لا يدافع عنه.


(١) "صحيح الجامع" ٢٥٥٠.
(٢) هو في "غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام" ٢٠.

<<  <   >  >>