وقوله:{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} كلام جامع لكل وعيد، ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ولا تخفى عليه خافية، وأنه من وراء مجازاته، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، لا تمضي عليه طرفة عين إلا وهو حذر خائف، ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعد عليه الأنفاس، لكان دائم الحذر والوجل، مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر، فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى، إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول؟
ولما حاج تعالى اليهود والنصارى في هؤلاء الأنبياء عقب ذلك الحجاج بقوله:
لتكون هذه الآية وعظًا لهم وزجرًا، حتى لا يتكلوا على فضل الآباء، فكل واحد يؤخذ بعمله، وإعلامًا لهم، بأنه متى لا يستنكر أن يكون فرضكم عين فرضهم، لاختلاف المصالح، لم يستنكر أن تختلف المصالح، فينقلكم محمد - صلى الله عليه وسلم -، من ملة إلى ملة.
وتدل الآية على أن كل إنسان مسؤول عن عمله، ولا عذر له في ترك الحق، إن توهم أنه متمسك بطريقة من تقدم، لأنهم أصابوا أو أخطؤوا، لا يضر هؤلاء ولا ينفعهم، لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد.
وفي الآية زجر عظيم لمن جعل التقليد مذهبه، وسار مع قول مقلده كيفما كان، ثم إن أتاه الحق وظهر له الدليل أعرض عنه جانبًا، وراغ عنه، وأخذ يؤوله حسبما يريد، ويختار له هواه، ويسلك مسالك أولئك المعاندين، الذين قلدوا أحبارهم ورهبانهم فيما ابتدعوه لهم من الدين، ورتبوه لهم من المفتريات، ولما جاءهم الحق الذي لا مرية فيه وهو القرآن الكريم، أعرضوا عنه اتباعًا لقول أحبارهم ورهبانهم، كما أضل هؤلاء من سار سيرهم واتبع طريقتهم، فأعرض عن كتاب الله وسنة نبيه، وحرفه وبدله وساقه نحو هواه،