للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأعرضنا عن البرهان المستنير كبرًا وعنادًا، وافتخرنا على غيرنا بالأصل والجنس، لا بالعلم والمعرفة، كنا أولاد إبليس، معنىً لا ولادة، وأنصاره وأشياعه. ألا يُرى أن كثيرًا من المشركين كانوا يعلمون أن هذا الكتاب معجز، وأن من أنزل عليه صادق في دعواه، ثم لا يؤمنون به كبرًا وعنادًا، مقتدين برئيسهم إبليس، حتى استكبر عن السجود لآدم، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦)} [ص: ٧٦] فالمقلد الذي لا يعير البرهان آذانًا صاغية، لا يسلم غالبًا من العثَار، والتدهور في مهاوي الغلط، وارتكاب الشطط.

ولما أخبرنا تعالى بهذه النعمة التي تقدمت الإشارة إليها، ضم إليها الخبر بالإنعام بإسجاد الملائكة لجدنا الأعلى آدم، ونحن في ظهره، فقال عاطفًا على إذ الأولى:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤)}.

عدل عن الغيبة إلى المتكلم، ثم إلى كونه في مظهر العظمة، إعلامًا بأنه أمر فصل لا فسحة في المراجعة فيه، ولهذه الآية مناسبة ثانية للتي قبلها، وهي: أنه تعالى، لما ذكر مفاوضة الملائكة، وإذعانهم وتسليمهم للبرهان، شأن المسترشد الذي إذا اتضح له البرهان سلم به، واستسلم له؛ نظم بذلك نبأ انقيادهم لآدم فعلًا كما انقادوا له علمًا، إظهارًا لكمال حالهم، في التسليم علمًا وعملًا، كما اقتدى بهم أتباع الرسل فكانوا معهم قلبًا ولسانًا.

فقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا} أي: على عظمتنا {لِلْمَلَائِكَةِ} الذين أكرمناهم بقربنا، {اسْجُدُوا} لعبدنا "آدم" اعترافًا بفضله الذي فضلناه به، سجودًا على وجه التكرمة، فجعله تعالى بابًا إليه، وكعبة ليعظموه بتعظيم الله، ومحرابًا، وقِبلةً يكون سجودهم له سجودًا لله تجاه آدم، كسجود آدم وبنيه لله تجاه الكعبة. وقد أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة، لأن سجود العبادة لغير الله كفر! والأمر لا يرد بالكفر، ومن ثم قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن أبي حاتم: كانت السجدة لآدم، والطاعة لله. وقال الحسن البصري: أمرهم أن

<<  <   >  >>