للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما كان عدم النصرة للجمع يستلزم عمومها للمفرد بطريق الأولى، جمع فقال: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}، أي: لا يتجدد لهم نصر يومًا ما ممن ينقذهم قهرًا كائنًا ما كان، فلا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشى والشفاعات، وارتفع من القوم التعاون والتناصر، وصار الحكم إلى العدل الجبار، الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها، وبالحسنة أمثالها.

والنصر يراد به المعونة، ويراد به الإغاثة والانتقام، فقوله تعالى: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}، يحتمل هذه الوجوه، هذا وقد أورد صاحب الكشاف اعتراضًا، وأجاب عنه على مقتضى مسالكه (١) فقال: فإن قلت: هل في الآية دليل على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة؟ قلت: نعم، لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقًا أخلت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع، فعلم أنها لا تقبل للعصاة.

وأجاب المخالفون لمسالكه بأن الضمير في قوله تعالى: {مِنْهَا}، إما أن يجعل راجعًا للنفس الأولى، أو الثانية، فإن جعل راجعًا إلى النفس الثانية، وهي العاصية، كان معنى قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}، أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لا يقبل منها، وحينئذ لا دليل في الآية على إنكار الشفاعة للعصاة، غاية الأمر أن الشفيع الذي تأتي به النفس العاصية لا يقبل منها، وإن جعل الضمير عائدًا على النفس الأولى، ثم السؤال، إذ المعنى حينئذ إما أن يقال: إن الدليل إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال، أو يقال بأن الآيات القرآنية تدل على أن للحساب مواطن، فبعضها لا تقبل فيه شفاعة أصلًا، وبعضها تكون الشفاعة فيه مقبولة، فتحمل الآيات على المواطن، وعلى أن العاصي أحق بالشفاعة من غيره.

ولما قدم تعالى ذكر نعمه على بني إسرائيل إجمالًا، بين بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في التذكير، وأعظم في الحجة فقال:


(١) تبعًا لمذهبه في الاعتزال من إنكار أمثال ذلك.

<<  <   >  >>