بيّن بقوله {إِلَهٌ وَاحِدٌ}، أن الوحدة معتبرة في نفس الأمر في الإله الحق، فلا يصح أصلًا أن يكون منقسمًا بالنوع، ولا بالشخص، ولا بالوصف، ولا بالفعل، ولا بغير ذلك بوجه من الوجوه، وإليه هذا الإشارة بإعادة لفظ الإله، وأنه هو الواحد الذي لا ينقسم بوجه من الوجوه، لا بمجانسة ولا بغيرها؛ وهو مع ذلك {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، فهذا تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته، فلا يصح بوجه، ولا يمكن في عقل أن يصلح للألوهية غيره أصلًا، فلا يستحق العبادة إلا هو، لأنه {الرَّحْمَنُ}، أي: العام الرحمة بالنعم الدنيوية الزائلة لأوليائه وأعدائه {الرَّحِيمُ}، أي: المخصص بالنعم الباقية لأوليائه، فثبت للتفرد بالألوهية، أنه حائز لجميع العظمة، وبيده مجامع الكبرياء والقهر، وبوصفي (١) الرحمة، أنه مفيض لجلائل النعم ودقائقها، فكل ما سواه إما نعمة، أو منعم عليه، فهو المخشي سطوته، المرجى رحمته، أن يعترض عليه في شيء من ذلك.
قال البرهان البقاعي، في كتابه "نظم الدرر": ولا يبعد عندي، وإنْ بَعُدَ المدى، أن تكون الواو في قول {وَإِلَهُكُمْ}، عاطفة على قوله في أوائل السورة، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، قبل قوله:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فإن التوحيد هو المقصود بالذات، وعنه تنشأ جميع العبادات، فلما قال أولًا:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أتبعه في قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} إلى آخره، بوصف هو دليل استحقاقه للعبادة، فلما قام الدليل قال:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} إعلامًا بأنه لا شريك له في العبادة، كما أنه قد تبين أنه لا شريك له في الخلق، ثم أتبعه بما يليق بذلك المقام، مما تقدم التنبيه عليه؛ ثم رجع إليه قائلًا ثانيًا:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}[البقرة: ٢٨] إلى آخرها، فأعاد الدليل على وجه أبين من الأول وأبسط، فلما تقرر على وجه لا مطعن فيه أمر الوحدانية والإعادة، كان الأنسب ما أولاه من الآيات السابقة، لما ذكر فيها من غير ذلك من المهمات؛ إلى أن صار إلى ذكر الكاتمين والتائبين والمصرّين، وذكر ما أعد لكل من الجزاء،
(١) قال محقق "نظم الدرر" ٢/ ٢٨١ بعد أن صححه بما تبعناه به: في الأصول: لوصفي، مع أنه معطوف على "بالتفرد". انتهى. وهو في الأصل: "لوصفي" أيضًا.