للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهي: أن تحريم أكل الميتة إنما هو للضرر الموجود فيها، فإذا أكلها غير المضطر لحقه الضرر الموجود بها، وإذا أكلها المضطر ارتفع ذلك الضرر, لأن الله تعالى، إذا أباح شيئًا أذهب ضره، واستدل بذلك لما ورد في الخبر "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها" (١). قال: ففيه تنبيه لتغيير هذه الأعيان للمضطر، عما كانت عليه حتى تكون رخصة في الظاهر، وتطييبًا في الباطن، فكما رفع عنه حكم الكتابي، يتم فضله فيرفع عنه حكمها الطبيعي.

ثم علل هذا الحكم مرغبًا ومرهبًا، بقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، أشعر بقوله: {رَحِيمٌ} بأنه لا يصل إلى حال الاضطرار إلى ما حرم عليه أحد، إلا عن ذنب أصابه، فلولا المغفرة لتمت عليه عقوبته, لأن المؤمن أو الموقن لا تلحقه ضرورة, لأن الله لا يعجزه شيء، وعبد الله لا يعجزه ما لا يعجز ربه، {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: ٤٩]. فاليأس الذي يحوج إلى ضرورة، إنما يقع لمن هو دون رتبة اليقين، ودون رتبة الإيمان, واستدل لذلك بما روي عن جابر في قصة طويلة: أنهم كانوا [في] غزاة، فنفد زادهم وهم على سيف البحر، فألقى البحر إليهم دابة يقال لها العنبر، فأكلوا منها نصف شهر، فلما رجعوا أخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: "هل عندكم منه شيء تطعموني؟ " (٢). ووجه الاستدلال من جهة أن الله تعالى لم يحوجهم إلى ضرورتهم، إلى ما حرم عليهم، بل جاءهم في ضرورتهم بما هو أطيب مأكلهم في حال السعة من صيد البحر، الذي هو: "الطهور ماؤه، الحل ميتته".

وفي قوله هنا: {رحيم} إنباء بأن من اضطر، فأصاب مما اضطر إليه شيئًا، لم يبغ فيه، ولم يعده، تناله من الله رحمة، توسعه عن أن يضطر بعدها إلى مثله، فيغفر له الذنب السابق الذي أوجب الضرورة، ويناله بالرحمة الواسعة التي ينالها من لم يقع منه ما وقع ممن اضطر إلى مثله.


(١) هو في "غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام" ٣٠.
(٢) أخرجه البخاري بنحوه (٤٣٦١) و (٥٤٩٤)، ومسلم (١٩٣٥).

<<  <   >  >>