ولما كان في بيان هذه المحرمات الإشارة إلى عيب من استحلها من العرب، وترك ما أمر به من الطيبات جهلًا وتقليدًا, أردفها هذه الآية بتكرار عيب الكاتمين لما عندهم من الحق، مما أنزل في كتابهم، فقال:
روى ابن جرير عن قتادة: أن هذه الآية، مراد بها أهل الكتاب، كتموا ما أنزل عليهم، وبيّن لهم من الحق الهدى، ونعت محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأمره. ورُوي مثل ذلك عن الربيع والسدي وعكرمة. وهذا وإن كان كذلك، إلا أن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - به، يشعر بوقوع ذلك من طائفة من أمته، حرصًا على الدنيا، كما يقع من المتأولين لكتاب الله وسنة رسوله، ليجعلونها مستندًا لبدعتهم، وجلب حطام الدنيا، ويكتمون معنى ما أنزل إليهم من ربهم.
فالأولى أن يقال: نزلت هذه الآية، في كل كاتم حق، لأخذ عرض أو إقامة غرض، من مؤمن ويهودي، ومشرك ومعطل، وإن صح سبب النزول، فهي عامة، والحكم للعموم؛ وإن كان السبب خاصًا، فيتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختارًا لذلك، لسبب دنيا يصيبها.
فقوله تعالى:{يَكْتُمُونَ} تأوله المفسرون على وجهين:
أولهما: ما روي عن ابن عباس، أنهم كانوا يحرفون التوراة والإنجيل.
وثانيهما: ما قاله المتكلمون: من أن هذا ممتنع, لأنهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما، بل كانوا يكتمون التأويل, لأنه قد كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة، ويصرفونها عن محاملها الصحيحة الدالة على نبوة محمَّد عليه السلام. فهذا هو المراد من الكتمان، فيصير المعنى: إن الذين يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب. وعلى هذا يدخل في الوعيد الباطنية والزنادقة، وأشياعهم