للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأشباههم، الذين يؤولون القرآن والسنة إلى درجة يلزم منها الحلول، وتعطيل الأمر والنهي، ويصرفون معاني الألفاظ إلى غير ما وضعت له، ويبدلون ما أنزل الله من الكتاب، فيجعلون الكلمة الواحدة كلمتين أو أكثر، توصلًا إلى تأييد نحلتهم، فيغيرون حدود الكتاب وأحكامه.

ولما كان من الكتم ما يكون لقصد خير - وكم من كلمة حق أريد بها باطل- قيده بقوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}. والثمن ما لا ينتفع بعينه، حتى يصرفه إلى غيره من الأعواض، فالإيعاد على ما يتضمن جهل الكاتم وحرصه، باستكسابه بالعلم، وإجرائه في غير ما أجراه تعالى على ألسنة أنبيائه {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: ١٠٩، ١٢٧، ١٤٥، ١٦٤، ١٨٠] ووصف الثمن بالقلة، إشارة إلى أن كل ما لم يثبت من خير الدنيا في الآخرة -وإن جلَّ- فهو حقير قليل مهان، {أُولَئِكَ} الذين هذه صفتهم {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} أي: ملء بطونهم؛ يقال: أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه، وقوله: {إِلَّا النَّارَ} جار مجرى قول العرب: أكل فلان الدم، إذا أكل الدية التي هي بدل منه، وهنا إذا أكل ما يتلبس بالنار، لكونها عقوبة عليه، فكأنه أكل النار، ولما كانت النار تحرق ما تصل إليه، كان عقابهم في الدنيا موت قلوبهم وحواسهم، فلا يحسون بالحق، ولا يدرونه، فهم كالخدر الذي يجعل يده في الماء الحار ولا يحس به، فيشعر ذلك بموت حواس هؤلاء عن حال ما تناولوه كما نشاهد ذلك من أكل مال اليتيم بغير حق، وما أشبهه، وعقابهم في الآخرة النار، يأكلونها في بطونهم، {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} كلامًا يدل على مرضي (١)، لكونهم لم يكلموا الناس بما كتب عليهم، وهذا تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة، في تكرمة الله إياهم بكلامه، وتزكيتهم بالثناء عليهم، وإنما يكلم الله هؤلاء بقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: ١٠٨] وإنما كان عدم تكليمهم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} , لأنه هو اليوم الذي يكلم الله فيه كل الخلائق بلا واسطة، فيظهر عند كلامه السرور في


(١) الأصل: (رضي) والتصويب من "نظم الدرر" ٢/ ٣٥٢.

<<  <   >  >>