للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتضليل بعضهم لبعض، وليست هذه هي العداوة، المأمور بها في قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: ٦] لأن هذا مأمور به، وذلك غير داخل في الأمر، بل المراد اهبطوا وسيكون حالكم أن بعضكم لبعض عدو، ولأن عالم التضاد والتنافس، ليس كعالم الأنوار الذي لا تعاند فيه ولا تمانع، {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أي: استقرار، أو موضع استقرار حالتي الحياة والموت، {وَمَتَاعٌ} أي: تمتع بالعيش؛ {إِلَى حِينٍ} هو يوم القيامة، أو حين انقضاء آجالكم، والحين: المدة سواء كانت طويلة أو قصيرة، وفي لفظ المتاع إشعار بانقطاع الإمتاع بما في هذه الدنيا، ونقص ما به الانتفاع عما كانا فيه، لأن المتاع أطلق في لسان العرب على الجيفة، التي هي متاع المضطر، وأرزاق سباع الحيوان وكلابها، فكذلك الدنيا هي جيفة متع بها أهل الاضطرار بالهبوط من الجنة وجعلها حظ من لا خلاق له في الآخرة، وهذا منزع الحكماء والصوفية من هذه الآية، وقال كثير من المفسرين: ولكم في الأرض منازل ومساكن تستقرون فيها، وتستمتعون بها، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش، والدين والملاذ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم، لأرماسكم وأجداثكم، تدفنون فيها، وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدلكم بها غيرها. وهذا منزع علماء العمران من هذه الآية، ولكل من الفريقين ملحظ، فالأول نظر إلى المحاكمة ما بين نعيم الجنة ونعيم الدنيا، فحق له أن يقول ما قال، والثاني نظر إلى محض الوجود في الدنيا، فقال ما قال، وكلا القولين تشهد لهما الآيات البينات.

وأما الحكمة في إهباط آدم إلى الدنيا، فقد أطال الحكماء في بيانها، ولنلخص أقواها وأقربها إلى العقل والنقل فنقول: إنما أهبطه ليظهر له مقابلة الضد بالضد، فجعله أولًا في دار النعيم، ثم نقله إلى دار النصب، والهموم، والأوصاب، ليعرف قدر الجنة إذا عاد إليها، وأردف وجوده في الدنيا بالتكاليف للابتلاء والاختبار، ليجعل المطيع كالسبيكة إذا أدخلت محل التخليص، فترجع صافية لا دنس فيها، ولا شيء مما يخالط معدنها بها، فمن ثم جعل في ولد آدم

<<  <   >  >>