للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأنبياء والرسل، والأصفياء، وأيضًا لما كان آدم مخلوقًا من ماء وطين، وكان هذان العنصران أصل المعادن، وهي منوعة إلى أنواع شتى، منها العالي في جوهره، ومنها السافل، وكانت الجنة لا تتفق مع عموم عناصر المعادن، لا جرم، جعل آدم بها أولًا ليعلمه أن ليس يستحقها إلا من كان عنصره على مثل عنصره، وأن ذريته سَتَصِلُ إلى أنواع المعادن الكامنة به، فمنها ما تقبله هذه الدار، ومنها ما لا تقبله، فأخرجه إلى الدنيا، وأنشأ منه ذريته فخرجوا على أنحاء شتى، وابتلاهم بالتكاليف ليمتاز أهل دار النعيم، من أهل دار الجحيم، وليتأهل كل فرد منهم إلى قابليته، كما يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" (١) وقوله: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهوا" (٢) وأيضًا فإنه تعالى وصف نفسه بصفاته العليا، وأسمائه الحسنى التي منها التواب، والغفار، والمنتقم، والجبار، ولا بد من جريان هذه الصفات، ولو بقي آدم وذريته في الجنة لما ظهر أثر كثير منها، فكان من الحكمة إهباطه إلى الأرض، وتكليفه هو وذريته بالتكاليف، ليظهر دور كل اسم من أسمائه تعالى، فيغفر لمن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، إلى غير ذلك من مظاهر أثر الأسماء والصفات، ولما كان هذا التدبير والتصرف الإلهي، تارة يكون شهودًا ومحله الجنة، وتارة يكون غيبًا ومحله دار التكليف، وكان الإيمان بالغيب أظهر للعبودية، والإذعان لتصرفات الربوبية، لا جرم جعل آدم وذريته في الأرض ليعلو قدر المطيع منهم بالإيمان بالغيب، وهو الإيمان النافع بخلاف إيمان الشهادة فإنه غير نافع، ولذلك كان الإيمان في الآخرة عند معاينة الجنة والنار لا يفيد شيئًا، ولهذا صدر هذه السورة بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ثم ذكر بعد كثير من الآيات، إهباط آدم إلى الأرض، فكأنه يشير إلى الحكمة من إهباطه، قبل ذكر قصته، وأنت إذا تأملت من أول السورة إلى هنا، لاح لك الدليل على جميع ما ذكرناه، وعلمت الأصناف التي يمكن لجواهرها أن تكون عامرة للجنة، والتي لا


(١) "صحيح الجامع الصغير" ١٠٧٤ للشيخ الألباني بترتيبي.
(٢) "صحيح الجامع الصغير" ٦٧٩٧.

<<  <   >  >>