للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما عدد الله فرق المكلفين من المؤمنين، والكفار والمنافقين، وذكر صفاتهم وأحوالهم، ومصارف أمورهم وما اختصت به كل فرقة، مما يسعدها، ويشقيها ويحظيها، عند الله تعالى، ويرديها، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات، ليرشدهم إلى الطريقة الحميدة في مجاري الأمور، وليستووا على جادة السداد في المصادر والموارد، فقال:

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)}.

أمرهم بالخضوع له بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة، وإفراد الربوبية له والعبادة، دون الأصنام والأوثان والآلهة، لأنه جلّ ذكره هو خالقهم، وخالق من قبلهم من آبائهم، وأجدادهم، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم، والقادر على نفعهم وضرهم فهو أولى بالطاعة ممن لا يقدر لهم على نفع، ولا ضر، {لعلكم تتقون} بعبادتكم {ربكم الذي خلقكم}، وطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، وإفرادكم له بالعبادة لتتقوا سخطه وغضبه أن يحل عليكم، وتكونوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.

والإشارة في الآية إلى ما كأنه تعالى يقول: جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أيها المنادي أولًا، ثم إني الآن أزيد في إكرامك وتقريبك، فأخاطبك من غير واسطة، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة.

وأتى بـ {يا} التي هي في الأصل حرف وضع لنداء البعيد، تنزيلًا لمن ناداهم منزلة الساهي والغافل، وإعلامًا بأن الخطاب الذي يتلوه معني به غاية العناية، لأنهم لو فطنوا إلى أن الله هو الذي خلقهم والذين من قبلهم، وجعل لهم الأرض فراشًا إلى غير ذلك مما هو مذكور، لم يكن لهم نفس تطيعهم على البقاء على حالتهم التي وصفها تعالى في الآيات السابقة، ولهذا تجد كل ما نادى الله له عباده، من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره، ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الماضية، وغير ذلك مما نطق به كتابه، أمورًا عظامًا، وخطوبًا جسامًا، ومعاني عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهم عنها غافلون.

فاقتضى الحال أن ينادوا مناداة الساهي الغافل، ليستيقظوا من رقدة غفلتهم، ويتنبهوا لما نودوا لأجله.

<<  <   >  >>