الشيء هل يتناول الموجود والمعدوم، كما ذهب إليه المعتزلة؟ أو: لا يتناول إلا الموجود؟ على معنى أن القدرة تتعلق بإيجاده.
وكلا البحثين محلهما كتب الكلام، ومسلكنا أن كل ما تعلق قدرة الباري تعالى بإيجاده، ظهر من عالم الخفاء، إلى عالم الوجود، فهو تعالى الفاعل المختار.
وليعلم: أن الله تعالى بسط في أوائل هذه السورة أحوال المنافقين، وضرب لهم الأمثال، ليظهر المعقول في صورة المحسوس، ليعلمنا بأنهم لما أضربوا عن سماع الحق، وعن النطق به، وعموا عن رؤية النور الباهر والبرهان الساطع، أمسوا في حيرة وجزع، ولم ينفعهم التملق ولا شقشقة اللسان بالقول بأنهم من أهل الإيمان، وليست هذه الإخبارات مقصورة على الذين كانوا حين نزول القرآن، بل هي غاية لكل من كان على صفتهم، وحذا حذوهم، وأخلد إلى التقليد المحض، ولم يفرض ما فهمه على كتاب الله، وعلى ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا حدقت ببصيرتك رأيت جمًا غفيرًا من تلك الطائفة، في كل زمان ومكان، وعلمت أن القول بوجوب التقليد لمن قال واجب، ولا يليق عرضه على هذين الأصلين قول بأن العلم لا يمكن أن يعلم، وبأن الوصول إلى حقائق الأحكام، تعلقت قدرة الله تعالى بإفاضته على المتقدمين، ثم صار من بعدهم مستحيلًا، يمتنع تعلق قدرة الله به، والقرآن يناديهم فلا يسمعون، ويتلونه ولا يفهمون، كلما سمعوا نداءه كان الوقر في آذانهم، وكلما أضاءت لهم إضاءة توافق مشربهم مشوا، فتأتي آية بعدها تقبح أفعالهم، فيقفون حائرين {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق}{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر: ٣]{بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[البقرة: ١٧٠] وأعظم من هذا، أن يقرؤوا {إن الله على كل شيء قدير}، ثم يصرحون بمقالتهم التي ينحل معناها إلى دعواهم، أن خزائن المواهب العلمية الإلهية، كانت ملأى في أيام المتقدمين، ثم نضب ماؤها وفرغت، فلم يبق بها شيء يفيض منه على المتأخرين، وكل ذلك كفر صريح ودخول في عداد المنافقين، الذين بين تعالى أحوالهم في هذه الآيات.