للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما فرغ ما قصه الله تعالى مما أراد من أحوال الطاعنين في القبلة، التي هي (قيام للناس) (١)، وما استتبع ذلك مما يضطر إليه في إقامة الدين من جدالهم وجلادهم، وختم ذلك بالهدى، شرع في ذكر ما كان البيت به قيامًا للناس من المشاعر القائدة إلى كل خير، الحامية عن كل ضير، التي جعلت مواقفها أنموذجًا لقيام الناس إلى المحشر، ولا سيما والحج أخو الجهاد في المشقة، والنزوح عن الوطن، فقال:

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)}.

فهو كالتعليل لاستحقاق البيت أن يكون قبلة، وأيضًا فإن التكليف على ثلاثة أقسام:

أولها: ما يحكم العقل بحسنه في أول الأمر، وقد ذكره تعالى بقوله: اذكروني {أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (١٥٢)} [البقرة] فإن كل عاقل يعلم أن ذكر المنعم بالمدح والثناء والمواظبة على شكره، أمر مستحسن في العقول.

وثانيها: ما يحكم العقل بقبحه في أول الأمر، إلا أنه بسبب ورود الشرع به يسلم حسنه، وذلك مثل إنزال الآلام والفقر والمحن، فإن ذلك كالمستقبح في العقول، لأن الله تعالى لا ينتفع به، ويتألم العبد منه، فكان ذلك كالمستقبح، إلا أن الشرع لما ورد به وبين الحكمة فيه، وهي الابتلاء والامتحان، وهذا هو المشار إليه بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: ١٥٥]، فحينئذ يعتقد المسلم حسنه، وكونه حكمًا وصوابًا.

وثالثها: الأمر الذي لا يهتدي لا إلى حسنه ولا إلى قبحه، بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة، وهو مثل الحج من السعي بين الصفا والمروة وغيره.


(١) اقتباس من الآية ٩٧ من سورة المائدة.

<<  <   >  >>