للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تعالى عنهم بذلك، وجعله علة لعدم رجوعهم عن غيِّهم وضلالهم، وإلى هذا الإشارة يقول ابن عباس، فيما رواه عنه ابن جرير، حيث قال: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه، ولا يعقلونه.

ثم رأيت للحافظ شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية، في كتابه "مفتاح دار السعادة" عند الكلام على قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣] كلامًا من هذا الموضوع حسنًا، وذلك أنه قال: وبصائر الناس في نور القرآن الباهر تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

أحدها: مَنْ عُدِم بصيرة الإيمان جملة، فهو لا يرى من محاسن هذا الدين إلا الظلمات والرعد والبرق، فهو يجعل أصبعيه في أذنيه من الصواعق، ويده على عينيه من البرق، خشية أن يخطف بصره، ولا يجاوز نظره ما وراء ذلك من الرحمة، وأسباب الحياة الأبدية، فهذا القسم هو الذي لم يرفع بهذا الدين رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي هدى به عباده، ولو جاءته كل آية، لأنه ممن سبقت له الشقاوة، وحقت عليه الكلمة، ففائدة إنذار هذا إقامة الحجة عليه، ليعذب بذنبه، لا بمجرد علم الله فيه.

القسم الثاني: أصحاب البصيرة الضعيفة الخفاشية، الذين نسبة أبصارهم إلى نور الشريعة الغراء، كنسبة أبصار الخفاش إلى جرم الشمس، فهم تبع لآبائهم وأسلافهم، دينهم دين العادة والمنشأ، وهم الذين قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: "أو منقادًا للحق لا بصيرة له في إصابة" فهؤلاء إذا كانوا منقادين لأهل البصائر، لا يتخالجهم شك ولا ريب، فهم على سبيل النجاة.

القسم الثالث: وهم خلاصة الوجود، ولباب بني آدم، وهم أولو البصائر النافذة، الذين شهدت بصائرهم نور الحق المبين، فكانوا منه على بصيرة ويقين، ومشاهدة لحسنه وكماله، بحيث لو عرض على عقولهم ضده لرأوه كالليل البهيم الأسود، وهذا هو المحك والفرقان بينهم وبين الذين قبلهم، فإن أولئك بحسب داعيهم، ومن يقرن بهم، كما قال فيهم علي بن أبي طالب: "أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق"،

<<  <   >  >>