للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما نظم سبحانه بنبأ موسى عليه السَّلام، ما كان من نبئهم من يوشع بعده، نظم في هذه الآية بخطاب موسى ما كان منهم بعد يوشع، إلى آخر اختلال أمرهم، وانقلاب أحوالهم من جنس المظاهرة لنبيهم، وإلى حال الاعتداء والقتل لأنبيِائهم عليهم السَّلام.

وفي جملته إشعار بأن ذلك لم يكن منهم، إلَّا لأجل إيثار الدُّنيا ورياستها وما لها على الآخرة، إيثارًا للعاجلة على الآجلة. وفي طيه أشد التحذير لهذه الأمة في اتباعهم لسنن أهل الكتاب في مثل أحوالهم، ولذلك انتظم بها الآية الجامعة، وابتدأ بذكر الذين آمنوا من هذه الأمة، ثم استوفى الملل التي لها صحة على ما يذكر آنفًا إن شاء الله، ولما كان التقدير: ففعلوا ما أمروا به من هبوط المصر، فكان ما وعد به، عَطَفَ عليه، قوله: {وضربت عليهم الذلة}، ملازمة لهم محيطة بهم، من جميع الجوانب، كما يحيط البيت من الشعر المضروب على الإنسان به. والذلة: اسم الذل، وهو صغار في النَّفس عن قهر وغلبة. {وضربت} عليكم {المسكنة}، وهي: ظهور معنى الذل أو التذلل على ظاهر الهيئة والصورة، سكونًا وانكفاف حراك، فسلط الله عليهم العدو، فاستأصل منهم من شاء الله، ومن بقي منهم أخذ بأنواع من الهوان، {وباؤوا} أي: رجعوا، وصاروا أحقاء بغضب من الله، لجرأتهم على هذا المقام الأعظم المرة بعد المرة، والكرة بعد الكرة.

قال "الحرالِّي": وفيه تهديد لهذه الأمة بما غلب على أهل الدُّنيا منهم، من مثل أحوالهم، باستبدال الأدنى في المعنى من الحرام [و] المتشابه، بالأعلى من الطَّيِّب، والأطيب المأخوذ عفوًا واقتناعًا.

ولما كان الغضب إنَّما يكون على من راغم الجليل في معصيته، ووقعت منهم المراغمة في معصيتهم واعتدائهم، ذكر فعلهم فقال: {ذلك} أي: ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وإحلاله غضبه بهم، بسبب "أنهم" كانوا أي جبلَّةً وطبعًا {يكفرون}، أي: مجددين مستمرين في الكفر {بآيات الله}، فالكفر: تغطية الشيء وستره، وآيات الله حججه وأعلامه وأدلته، على توحيده

<<  <   >  >>