حركة الأرض وبين حركة الماشي عليها، لأن الماشي يقصد نقطة من الأرض معينة، فمهما سارت الأرض بسرعة، كان هو عليها سائرًا إلى النقطة التي يقصدها، كالراكب في السفينة، بخارية كانت أو هوائية، فإنه يسير إلى جهة الغرب، أو الشرق على ظهرها، ويبلغ مكان قصده بلا عناء، وإن كانت السفنية سائرة إلى غير جهة قصده، وكذلك النملة تمشي على حجر الرحى وهو متحرك بالاستدارة، فتعاكس حركته وتبلغ مكان قصدها، ولا يؤخرها دوران الرحى شيئًا، نعم إنما يتم استدلال الإمام، فيما إذا كان السائر على الأرض، يطلب نقطة معينة من غير الأرض، فإنه حينئذ لا يبلغها، كالراكب في السفينة البرية، فإنها إذا كانت في سرعة سيرها، وأراد أن يلقي نفسه في نقطة معينة من الأرض، فإنه يعسر عليه أن يصل إلى النقطة التي قصدها، ومثل هذا ثابت بالمشاهدة والعيان، فلا حاجة إلى تطويل الكلام فيه، وحيث انتفى الدليل انتفى المدلول.
وأما قوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}، فقد تقدم قول ابن جرير الطبري: إن العرب تطلق السماء على كل شيء فوق شيء. وقول صاحب الكشاف: إن البناء مصدر سمي به المبني. وأنت إذا تأملت الجو من جهة العلو، ومن جهاته الأربع، رأيت نظرك قد انتهى إلى منظر بديع، فإنك ترى قبة زرقاء قد أرخت أطرافها على الأرض، وهذا المرئي وإن لم يكن جسمًا، لكن يخيل للناظر أنه جسم حقيقي لا وهمي، ومن ثم قال "الجاحظ":
إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كلُّ ما يحتاج إليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض محدودة كالبساط، والنجوم منورة كالمصابيح، والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه، وضروب النباتات مهيآت لمنافعه، وضروب الحيوان مصرفة في مصالحه، فهذه جملة واضحة دالة، على أن المراد من السماء، ما نراه من الأشياء المحيطة بنا، بواسطة أن شعاع المبصر يخرج على شكل مخروطي متسع الأسفل، ضيق الأعلى، ولذلك نرى الجمل إذا كان أمامنا على هيئة، وإذا بعد عنا نراه صغيرًا على نسبة بعده عنا، إلى أن يبعد بمسافة ما يمكن البصر أن يشاهده بها فيختفي، وكذلك إذا نظرنا إلى الجو من جهاته