ينقشع، مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاث: فالكثيف يقتضي النزول؛ واللطيف يقتضي الصعود؛ والمتوسط يقتضي الانقشاع.
و"التسخير": التذليل، وذلك أن السحاب لا بد له من قاسر قاهر، يقهره على بقائه في جو الهواء على خلاف الطبع، وأن يقدره بالمقدار المعلوم، وأن لا يجعله واقفًا في موضع معين، بل يسوقه بواسطة تحريك الرياح له إلى حيث يشاء ويريد.
ولما ذكر تعالى، الأعلى والأسفل، ومطلع الليل والنهار من الجانبين، وإنزال الماء، ذكر ما يملأ ما بين ذلك من الرياح والسحب، الذي هو ما بين حركة هوائية، إلى استنارة مائية، إلى ما يلزم ذلك من بوادي نيراته، من نحو صواعقه، وجملة أحداثه، فكان في جملة هذا الخطاب اكتفاء بأصول من مبادئ الاعتبار، فذكر السماء والأرض، والآفاق وما بينهما من الرياح والسحب، والماء المنزل، الذي جملته قوام الخلق في عاجل دنياهم، ليجعل لهم ذلك آية على علو أمر وراءه، ويكون كل وجه منه آية على أمر من أمر الله، كما قال تعالى:{لَآيَاتٍ} وذلك لتكون "السماء" آية، على علو أمر الله، فيكون أعلى من الأعلى، وتكون {الْأَرْضِ} آية على باطن أمر الله، فيكون أبطن من الأبطن، ويكون {اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، آية على نور بدوه، وظلمة غيبته، مما وراء أمر الليل والنهار، ويكون ما أنزل من الماء لإحياء الأرض وخلق الحيوان، آية على ما ينزل من نور علمه على القلوب، فتحيا به حياة تكون حياة الظاهر آية عليه، ويكون {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} آيات على تصريف ما بين أرض العبد، الذي هو ظاهره، وسمائه الذي هو باطنه، وتسخير بعض لبعض، ليكون ذلك آية على علو الله على سمائه العلي في الحس (١)، وعلى سماء القلوب العلية في الوجدان.
فلجملة ذلك، جعل تعالى صنوف هذه الاعتبارات آيات {لِقَوْمٍ} وهم الذين يقومون في الأمر حق القيام؛ ولذلك لا يناله من هو في سن الناس، حتى يتناهى
(١) لأن العلو للرحمن أمر مسلم دينًا ونقلًا ولا نشك في ذلك.