للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الصفوة في خاتمة العمر، ليكون الخروج من الدنيا عن اللقاء للحق وسلام للخلق، كما قال يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: ١٠١].

وقوله: {ومن ذريتنا} معناه: واجعل بعض {ذريتنا أمة مسلمة لك}، وإنما خصا بذلك بعض الذرية، لأن الله قد كان أعلم إبراهيم قبل مسألته هذه، أن من ذريته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره، فلذلك خصا بالدعوة بعض ذريتهما، وقال السدي: المراد من ذلك البعض: العرب، وهو قول باطل، لأن ذرية إبراهيم العرب وغيرهم، وأيضًا فإنه ليس كل العرب من ولد إبراهيم، ولو كان قوله صحيحًا لكان يلزم لذلك التخصيص تعميم، ليعم كل العرب، ولا عموم هنا.

وقوله تعالى: {أمة مسلمة لك} معناه: جماعة، وخص ذريته بالدعاء، للشفقة وللحنو عليهم، ولأن في صلاح نسل الصالحين نفعًا كثيرًا لمتبعهم، إذ يكونون سببًا لصلاح من ورائهم، ودل صدر هذا الدعاء، على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلمًا لأحكام الله وقضائه وقدره، وأن لا يكون ملتفت المخاطر إلى شيء سواه، ولما كان المسلم مضطرًا إلى العلم، قال: {وأرنا مناسكنا} أي: وبصرنا متعبداتنا في الحج، وعرفناها {وتب علينا} أي: أدم توبتنا {إنك أنت التواب} صيغة مبالغة، أي: الرجاع بعباده إلى مواطن النجاة من حضرته، بعدما سلط عليهم عدوهم بغوايته، ليعرفوا فضله عليهم، وعظيم قدرته، ثم أتبعه وصفًا هو كالتعليل له، فقال: {الرحيم}.

وقال فخر الدين الرازي، من جملة أوجه ذكرها: لمّا أُعلِم إبراهيم أن في ذريته من يكون ظالمًا عاصيًا لا جرم، سأل ههنا أن يجعل بعض ذريته أمة مسلمة، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة المذنبين للتوبة، فقال: {وتب علينا} أي: على المذنبين من ذريتنا، والأب المشفق على ولده، إذا أذنب ولده فاعتذر الوالد عنه، فقد يقول: أجرمت وعصيت، وأذنبت فأقبل عذري، ويكون مراده أن ولدي أذنب فأقبل عذره، لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه، ثم إن الرازي قوى هذا التأويل، واستدل له، وإنما جنح إلى

<<  <   >  >>