منه سرعة التكوين، كقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)} [النحل] والمعنى: أنَّه تعالى لم يعجزه ما أراد إنزاله من العقوبة بهؤلاء، بل لما قال {لهم كونوا قردة خاسئين} صاروا كذلك, أي لما أراد بهم ذلك صاروا كما أراد.
وقد اختلف المفسرون في معنى {كونوا قردة}، فروى عن مجاهد: أنهم لم يصيروا قردة حقيقة؛ ولكن الله مسخ قلوبهم، بمعنى: أنَّه طبع وختم عليها. والأولى إبقاء الآية على ظاهرها، ولا يستبعد ذلك عقلًا لأن بنيَّة الإنسان عرضة للتبدل، فقد يكون السمين هزيلًا وبالعكس، ولما كانت الأجزاء متبدلة تبدلًا ظاهرًا، علم أن الإنسان أمر وراء هذا الهيكل المحسوس، وهو موجود مجرد، فلا امتناع في بقائه مع تطرق التبدل إلى هيكله، وهذا هو المسخ بذاته على ما تشير إليه هذه الآية، وليس المراد من المسخ هنا ما يدعيه القائلون بالتناسخ، من أن النفوس الناقصة التي بقي شيء من كمالاتها بالقوة تتردد في الأبدان الإنسانية، وتنتقل من بدن إلى آخر، حتَّى تبلغ النهاية فيما هو كمالها من علومها وأخلاقها، ويسمى هذا عندهم: نسخًا. وقالوا: ربَّما تنازلت إلى الأبدان الحيوانية، فتنتقل من البدن الإنساني إلى بدن حيواني يناسبه في الأوصاف، كبدن الأسد للشجاع، والأرنب للجبان، ويسمى مسخًا، وربما تنازلت إلى الأجسام النباتية، ويسمى رسخًا، أو إلى الجمادية كالمعادن ويسمى فسخًا، ويدعون أن هذه التنازلات المذكورة هي مراتب العقوبات، وإليها الإشارة بما ورد من الدركات الضيقة في جهنم، ولنا عودة إلى هذا الموضوع في المحالِّ المناسبة له إن شاء الله تعالى.
ولما بين تعالى قساوة بني إسرائيل في حقوقه عامة، أتبعه بيان قساوتهم في مصالح أنفسهم، لينتج أنهم أسفه النَّاس فقال: