وأقول: ما قاله ابن جرير أولى، لأنا بيّنا أن الآية معطوفة على التي قبلها، وهي:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} والجائي هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيكون هذا دليلًا على التخصيص، وأيًا ما كان فالمعنيان متقاربان.
واختلف فيما هو المراد بـ "الشياطين"، وظاهر اللفظ أنهم شياطين الجن، لأنَّه إذا أطلق الشيطان تبادر إلى أنَّه من الجان، وقيل: المراد شياطين الإنس، وهو قول المتكلمين من المعتزلة، وقيل: هم شياطين الإنس والجن.
والذي يظهر لي: أن المراد بهم شياطين الإنس لأنهم هم الذين يظهرون للناس ويتلون عليهم الأخبار، ويفسدون عليهم عقائدهم، وذلك أن تلك الفئة من الشياطين طعنوا في نبوة سيدنا سليمان، وأوهموا الناس أنَّه كان ساحرًا، وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه من الملك إلا بسبب السحر، وأنه كان يسخر به الجن والإنس والريح التي كانت تجري بأمره، وأن ما كان يظهر على يده ليس بشيء من المعجزات وإنما هو سحر محض.
ومن هنا شاع بين الناس صنع العزائم لتسخير الأرواح واستخدامها، وشاع بينهم أسماء خاتم سليمان، وأسماء عصا موسى، وتناقل الناس أمثال ذلك سلفًا عن خلف حتَّى إلى زمننا هذا، وأودع الكتب.
ومن هنا أيضًا كان المنافقون والمشركون يقولون عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه ساحر، فقوله تعالى:{على ملك سليمان}، متعلق بمحذوف تقديره: افتراء {على ملك سليمان}، وملكه: شرعه ونبوته وحاله.
ولما كان السحر كفرًا نزه الله تعالى نبيه عنه، فقال:{وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا}، الآية، أي: ليس ما اختلقه الجن من نسبة ما تدعيه إلى سليمان تعاطاه سليمان لأنَّه كفر، ومن نبأه الله مُنزه عن المعاصي الكبائر والصغائر، فضلًا عن الكفر، وفي هذا دليل على صحة نفي الشيء عما لا يمكن أن يقع منه، لأنَّ النبي لا يمكن أن يقع منه الكفر، ولا يدل هذا على أن ما نسبوه إلى سليمان من السحر يكون كفرًا، إذ يحتمل أنهم نسبوا إليه الكفر مع السحر.