للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

معصيته في اتباعه أعظم من الأكل من الشجرة، لأن قوله له ولزوجته: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠)} [الأعراف: ٢٠]، فيه إلقاء سوء الظن إليهما، ودعاؤهما إلى ترك التسليم بأمره والرضاء بحكمه، وإلى أن يعتقدا فيه كون إبليس ناصحًا لهما وأن الرب تعالى قد غشهما، ولاشك أن هذه الأشياء أعظم من الأكل من الشجرة، وهي توجب أن تكون المعاتبة أشد، فلما لم يكن الأمر كذلك ثبت الادعاء المتقدم، على أنه ليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل، عند ذلك الكلام أو بعده.

هذا وأما صدور المعصية من الأنبياء قبل النبوة فمختلف فيه، وأيًا ما كان، فإن ما فعله آدم كان صغيرة في الظاهر، ومطابقًا للحكمة الإلَهية في الباطن، لأن الله لم يخلقه لأن يكون في الجنة، بدليل قوله تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ولم يقل: في الجنة، ولأكثر المفسرين في هذا المقام مقالات اقتبسوها عن أهل الكتاب، وأكثرها من كلام وهب بن منبه اليماني، والسدي، وأضرابهما، والغالب أنها تأتي مرفوعة إلى ابن عباس رضي الله عنه على أن روايتها لا تصح أصلًا، ولا تنطبق على معاني كتاب الله تعالى، فيجب إطراحها وعدم اعتبارها ولنذكر نموذجًا منها ليعلم الباقي: وهو أن القصاص يروون عن وهب بن منبه، والسدي عن ابن عباس وغيره: أنه لما أراد إبليس أن يدخل الجنة منعته الخزنة، فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البُختية (١)، وهي كأحسن الدواب، بعدما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد منها، فابتلعته الحية وأدخلته خفية من الخزنة، فلما دخلت الحية الجنة خرج إبليس واشتغل بالوسوسة، فلا جرم لعنت الحية، وسقطت قوائمها، وصارت تمشي على بطنها، وجعل رزقها في التراب، وصارت عدوًا لبني آدم.

واعلم أن هذا القول فاسد من وجوه ذكرها الإمام الرازي في تفسيره: منها أن إبليس لو قدر على الدخول في فم الحية، فلم لم يقدر على أن يجعل نفسه حية


(١) البختية: الأنثى من الجمال: البُخت، والذكر بختيّ، وهي جمال طوال الأعناق.

<<  <   >  >>