للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التحدي، وذلك أنهم كانوا يطعنون في القرآن، ويرتابون فيه، من حيث أنه كان مدرجًا على قانون الخطابة والشعر، فكان ينزل سورة بعد سورة وآيات غب آيات، على قدر النوازل وعددها، وعلى مماثلة الحوادث، فكانوا يظنونه على مذهب أهل الخطابة والشعر، من وجود ما يوجد منهم مفرقًا موزعًا على الأحيان، حسب ما يبدو ويظهر لهم من الأحوال المتجددة، والحاجات السانحة، لا يلقي الناظم ديوان شعره دفعة، ولا يرمى الناثر بمجموع خطبه أو رسائله ضربة، ويقولون: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: ٣٢] فقيل لهم: إن ارتبتم في هذا الذي أنزل تدريجًا، فهاتوا أنتم بنجم من نجومه، وسورة من سوره، فإنه أيسر عليكم من أن تنزل الجملة دفعة واحدة، ويتحدى بمجموعه، فقد جعل ما اتخذوه ريبة قادحة، وسيلة إلى كونه حقًا لا يجول حول حماه شك، تقوية للتحدي، ودفعًا لما في صدورهم من الشبه، وهذا غاية الإلزام والتبكيت لهم، ولمن يأتي بعدهم من الطوائف التي تدعي أن القرآن اخترعه محمد من تلقاء نفسه، ولمن يقول بأنه اخترعه بإعانة جماعة من أصحابه، وينسبون رواية أخبار الماضين إلى سلمان الفارسي، إلى غير ذلك من المطاعن التي يتشبث بها بعض الضالين من أهل زمننا وغيره.

وتقرير الدليل على المناهج العقلية، أن يقال: إن هذا القرآن لا يخلو حاله من ثلاثة وجوه لا زائد عليها، وهي: إما أن يكون مساويًا لسائر كلام الفصحاء؛ أو زائدًا على سائر كلامهم، بقدر لا ينقض العادة؛ أو زائدًا عليه بقدر ينقض العادة، والقسمان الأولان باطلان، لأنه لو كان كذلك لكان من الواجب أن يأتوا بمثل سورة منه، إما منفردين، وإما مجتمعين، داعين شهداءهم من دون الله، أو غير داعين لهم، فإن حصل التنازع وحصل الخوف من عدم القبول، فالشهود والحكام يزيلون الشبهة، وذلك لغاية الاحتجاج لأنهم كانوا في معرفة اللغة، والاطلاع على قوانين الفصاحة، في الدرجة القصوى، وكانوا في محبة إبطال أمره في الغاية، حتى بذلوا النفوس والأموال، وارتكبوا ضروب المهالك والمحن، وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقبلون الحق، فكيف الباطل؟ وكل ذلك يوجب الإتيان بما يقدح في قوله، والمعارضة أقوى

<<  <   >  >>