ولما كان هذا حالهم مع الرسل، مع أنسهم ومعرفتهم بأحوالهم واتصالهم بالله وكمالهم، علم أنهم في منابذتهم لهم، عبيد الهوى، وأسرى الشهوات، فتسبب عن ذلك الإنكار عليهم فقال:{أَفَكُلَّمَا} أي: أفعلتم ما فعلتم من نقض العهود، مع مواترة الرسل ووجود الكتاب، فكلما {جَاءَكُمْ رَسُولٌ} من عند ربكم {بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ} أي: بما لا تحبه وتختاره {اسْتَكْبَرْتُمْ} عن إجابته احتقارًا للرسول أو استبعادًا للرسالة؟ ! وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعة الاستكبار الَّذي هو محل النقائص ونتيجة الإعجاب، وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق، وأن ذلك كان يتكرر منهم بتكرير مجيء الرسول إليهم، وقد كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، وسقوه السّم ليقتلوه، وأما الكبر، فقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم -، بأنه:"سفه الحق، وغَمْطُ الناس"(١) والسفه في الأصل: الخفة والطيش، والغمط: الاستهانة والاستحقار.
ثم إنه تسبب عن طلبكم الكبر، أنكم {فريقًا كذبتم} كعيسى ومحمد عليهما السلام، {وفريقًا تقتلون}، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر، ولأنه المشترك بين الفريقين المكذب والمقتول، وهذا الكلام نهاية الذم لهم، ولمن كان على شاكلتهم في تكذيب الأنبياء، وذلك لأنَّ اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما تهواه أنفسهم كذبوه، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه، وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الرفعة في الدنيا وطلبهم لذاتها، والترؤس على العامة منهم، وأخذ أموالهم بغير حق، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك، فيكذبونهم لأجل ذلك، ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين، ويحتجون لذلك بالتحريف وسوء التأويل.
ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم، قص الله علينا ذلك من نبئهم لنكون على بينة من أمرنا، فلا نسلك مسالكهم، وأن لا نكون كمن أعمى الله قلوبهم، فإذا رأوا آية قرآنية، أو حديثًا صحيحًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يوافق كل منهما هوى أنفسهم، أسرعوا إلى تأويله على مقتضى مشتهياتهم، فإن لم يمكنهم التأويل أو كانوا من أهل الجهل المركب، طرحوا الآية والحديث جهارًا،